يا تلاميذ غزة علمونا… هكذا تكلم نزار قباني عن فلسطين
تاريخ النشر: 26th, October 2023 GMT
وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن التاريخ لم يمض أصلا!
وكأننا عالقون في حلق الصهيونية شوكة متمردة، فلا هي قادرة على لفظنا، ولا نحن نرضى بغير اختناقها واندحارها حلا لقضيتنا!
ها نحن بعد نحو 35 سنة نردد ما قاله نزار قباني مخاطبا أبناء غزة، فمن أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت سنة 1987 كتب نزار "يا تلاميذ غزّة علّمونا…"، ولا نزال حتى يومنا هذا نتعلم من أبناء غزة معاني المقاومة المكللة بالعزة والكرامة، المُدجَّجة بالحجارة وحدها سلاحا فتيا ثائرا في وجه الصهاينة ومشروعهم الوجودي في أرض فلسطين الحبيبة، أرض الأنبياء، ومسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الأرض المباركة كما جاء وصفها في القرآن الكريم في سورة الإسراء في قوله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾.
منذ متى وغزة الأبية تواجه العدو الإسرائيلي وتقاوم براثنه؟
منذ متى وغزة العزة بعنفوانها وثباتها مصدر إلهام حي وحقيقي لشعرائنا الأحرار، وقلب عربي نابض بالحق والكفاح والمقاومة؟
منذ متى وغزة العزة بكل ما يطوّقها من قتل وذعر وتشريد، هي جرحنا الدامي، وقلبنا المليء بالإيمان بالقضية، وروحنا المشعة التائقة المتطلعة إلى وحدة الأمة الإسلامية وعزتها وسلامها؟
وما زالت غزة في كل جولة تدوس القناع العربي الزائف… لك الله يا درعنا المنيع يا غزة الأبية، فقد صدق محمود درويش حين قال:
لا أَحَدْ…
سقط القناعُ
عَرَبٌ أَطاعوا رُومَهم
عَرَبٌ وبارعوا رُوْحَهُم
عَرَبٌ… وضاعوا
سَقَطَ القناعُ
في انتفاضة فلسطين الأولى التي سميت بانتفاضة الحجارة علمنا أطفال غزة معنى أن يرضع الوليد من ثدي المقاومة، أن يسري في عروقه معنى الشهادة، وأن ينشأ في حضن القضية، ليشبّ شهيدا جميلا يسير على أحلامنا، وترفرف له قلوبنا أن يا للشهيد.
لم يكن لديهم من سلاح آنذاك سوى حجارة من كرامة يرمونها بأياد من عزة وإباء، يسارعون بأرواح متوهجة بالإيمان بالحق وأقدام ثابتة على طريقه، مطالبين بالأرض والعرض، باذلين أنفسهم حتى اقتلاعها من براثن الصهيونية، فإما النصر وإما النصر! فالشهادة عندنا نصر!
يقول في ذلك نزار قباني معجبا بصلابة أبناء غزة وعنفوانهم، مستنكرا على العرب تخاذلهم عن نصرة إخوانهم:
يا تلاميذَ غزّة
عَلّمونا بعضَ ما عندكم فَنَحنُ نِسينا
عَلِّمونا بأن نكونَ رجالًا
فلدينا الرِّجالُ صاروا عَجينا
عَلّمونا كيف الحجارةُ تغدو
بين أَيدي الأطفالِ ماسًا ثَمينًا
كيف تغدو درَّاجة الطِّفلِ لُغمًا؟
وشَريط الحرير يغدو كَمينًا
كيف مصّاصة الحليب
إذا ما اعتقلوها تحوَّلت سِكِّينا
استطاع أبناء غزة وأطفالها أن يقاوموا جيشا مجهزا بأفضل العُدَد والعتاد وأكثرها تطورا بقلوب من حجارة، تصدح على أغصان الحرية، مناشدة ما تبقّى من نخوة عربية طال سُباتها! فأصحاب القرار العربي نائمون، وذوو العزم والقوة منهم مقيدون مكبلون، وأبناء العروبة غارقون في وحول تركها لهم الاستعمار الذي استوطن أوطانهم، ومشتتون في أصقاع من الهموم التي أكلت أذهانهم وفرّقت أهدافهم، وشوّهت فكرة الانتماء لديهم، وحَدَّت من امتداد ظلال الأمة الواحدة باقتلاع جذورها وقطع النشء الجديد عن مقومات هويته الدينية والوطنية والقومية.
لم يقتصر الأمر على تخلي بعض الإخوة العرب عن دعم الفلسطينيين في انتفاضتهم ومساندتهم، بل تعداه إلى التطبيع مع العدو والوقوف في صفه، وكأن دعم القوى العالمية له لم يكن كافيا! وها نحن اليوم نرى فجور العالم صارخا في وجه الإنسانية التي يصوغها كما يحلو له وبما يخدم مصالحه وأهدافه!
الدول الكبرى -التي جعلناها كبرى- تدعم إسرائيل اليوم، وتدافع عنها بكل وضاعة، وهي تنظر في عيون الحق الأبلج بكل صفاقة! والدول العربية يترأسها صُمٌّ بكمٌ عميٌ…
ما الذي تركوه لنا حتى قال عنهم نزار:
سأقُولُ، يا قَمَرِي، عن العَرَبِ العجائبْ
فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ؟
أم مثلنا التاريخُ كاذبْ؟
شوّهوا تاريخنا بالحاضر المخزي الذليل، وفتقوا الجراح ونكؤوا الندوب، وصيّروا فينا العجز واليأس، وباتت عروبتنا عارا علينا، ولعنة انتماء، وصرنا جميعا نهتف بقول نزار:
أنا يا صديقة متعب بعروبتي
فهل العروبة لعنة وعقاب؟
أمشي على ورق الخريطة خائفا
فعلى الخريطة كلنا أغراب
لولا العباءات التي التفوا بها
ما كنتُ أحسب أنهم أعراب!
ألا يحق لنا اليوم أن نصرخ ألما ونتشظى غيظا وعجزا، ونحن نسمع أحد المحسوبين على قادة العرب يفاوض على تهجير أهلنا في غزة!
كان شاعرنا الثائر يتساءل:
ما للعروبـة تبدو مثلَ أرملة؟
أليس في كتب التاريخ أفراح؟
لم تعد العروبة أرملة يا نزار، فقد دُفنت عروبتنا بدون جنازة ورفات!
لكنّها غزة، تلك المدينة العزيزة المنيعة العصية على طأطأة الرأس والانكسار…
يا أبناء غزة، يا أحبابنا الأبطال، يا نصرنا الجميل المدمّى:
"لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا… اضربوا بكل قواكم
واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح
فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمة الجيش
فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى
لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا
وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنّينَ
قد صغرنا أمامكم ألف قرن
وكبرتم خلال شهر قرونا"
يا أبناء غزّة… علّمونا الجنون!
يقول نزار قباني في قصيدته (يا تونس الخضراء):
إن الجنون وراء نصف قصائدي *** أوليس في بعض الجنون صواب؟
بلى يا شاعر الياسمين! أتراك كنت ترى بلحظ الشاعر وحسه وإلهامه أننا سنصل يوما إلى عصر يمور فيه الجنون حتى نكاد نذهل عن أنفسنا ونحن نحاول أن نفهم ما يجري من حولنا من تكالب الدول والأمم وخذلان القريب والبعيد، إلى عصر يتصدّر فيه الإمّعة، ويتطاول فيه السفيه، ويُباري فيه العقل ريح الجنون المستعرة في كل نفس نتجاذبه… يا أبناء غزّة… يا نبض الأمة ويا أحرارها:
"يا تلاميذ غزة
أمطرونا بطولة وشموخا
إن هذا العصر اليهودي
وهمٌ سوف ينهار
لو ملكنا اليقينا
يا مجانين غزة
ألف أهلا بالمجانين
إن هم حرّرونا
إن عصر العقل السياسي
ولّى من زمان
فعلّمونا الجنونا".
إنّ طوفان الأقصى الذي صنعه من كانوا تلاميذ غزة بالأمس، فصاروا أبطال الدنيا اليوم هو أجمل أشكال الجنون في عصر العقل السياسي الجبان والعقلانية الخانعة المخاتلة، فلنغترف من نهر الجنون الذي يصنع الكرامة والإباء، والذي يعيد لنا وجودنا على الخارطة بعد أن ضيّعنا عليها المتخاذلون تحت ستار من العقل السياسي الخانع الجبان، أولئك الذين قال عنهم نزار:
"نتعاطى القات السياسي والقمع
ونبني مقابرا وسجونا
يا تلاميذ غزّة
حرّرونا من عقدة الخوف فينا
واطردوا من رؤوسنا الأفيونا"
إن وعد الله كائن لا محالة، ونصره قادم لا ريب فيه، فاعملوا فإنه يرى، وإنكم العالون ومن خذلوكم هم السافلون الأسفلون، وتمسكوا بحبل الله ووعده ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: نزار قبانی أبناء غزة
إقرأ أيضاً:
عبد الله مشنون يكتب..إستفحال مظاهر العنصرية في الجزائر ضد ذوي البشرة السمراء
عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم بايطاليا
تُعاني الجزائر من تفشٍّ واضح للعنصرية ضد ذوي البشرة السمراء، سواء كانوا من أبناء الجنوب الجزائري أو من المهاجرين الأفارقة. رغم الخطاب الرسمي الذي يُنادي بالمساواة ومناهضة التمييز، إلا أن الواقع يُظهر أن هذه الفئة ما زالت تواجه العديد من مظاهر الإقصاء، سواء في الحياة السياسية أو الاجتماعية، مما يطرح تساؤلات حول الأسباب العميقة لهذه الظاهرة وتأثيراتها على تماسك المجتمع الجزائري.
في المؤسسات الرسمية، لا يزال حضور الجزائريين ذوي البشرة السمراء في المناصب العليا محدودًا. فرغم تعيين شخصيات بارزة من هذه الفئة، مثل عبد القادر مساهل ونور الدين بدوي، إلا أن ذلك يبقى استثناءً وليس القاعدة. كما أثار تعيين حسن دردوري ردود فعل عنصرية، ليس بسبب مؤهلاته، ولكن بسبب لون بشرته، ما يعكس استمرار النظرة الدونية تجاه أبناء الجنوب. أما في المؤسسة العسكرية، التي تُعد من أكثر المؤسسات نفوذًا في البلاد، فيندر أن نجد تمثيلًا لهذه الفئة، مما يعمق الشعور بالتهميش لدى الجزائريين السود ويؤكد أن الفرص ليست متساوية للجميع.
إلى جانب الإقصاء السياسي والمؤسسي، يواجه أبناء الجنوب الجزائري مظاهر تمييز صارخة عند انتقالهم إلى مدن الشمال. كثيرون يعانون من مضايقات يومية، وأحيانًا إساءات لفظية بسبب لون بشرتهم ولهجتهم المختلفة. حتى في الجامعات، طُلب من بعض الطلاب القادمين من الجنوب الخضوع لفحوصات طبية قبل استلامهم غرفهم في الإقامات الجامعية، في إجراء لم يُفرض على غيرهم، وهو ما يعكس وجود تمييز مؤسساتي قائم على أساس العرق والانتماء الجغرافي. هذه الممارسات جعلت الكثير من أبناء الجنوب يترددون في الاستقرار في الشمال، خوفًا من مواجهة معاملة غير عادلة أو شعور دائم بالغربة داخل وطنهم.
في الإعلام، لا يختلف الوضع كثيرًا، حيث يبدو أن الوجوه ذات البشرة السمراء غائبة إلى حد كبير عن البرامج التلفزيونية، وكأنها لا تمثل جزءًا من الهوية الجزائرية. حادثة عارضة الأزياء والمؤثرة الجزائرية بركة مزراية تُجسد هذا التهميش، حيث تعرضت لتعليقات عنصرية مؤلمة جعلتها تبكي بحرقة، ما كشف عن حجم التنمر الذي يواجهه الجزائريون السود في الفضاء العام. غياب التمثيل العادل في وسائل الإعلام يعزز الصورة النمطية السلبية عن هذه الفئة، ويُكرّس فكرة أنها ليست جزءًا من النسيج الوطني، رغم أنها من أقدم المكونات السكانية في الجزائر.
العنصرية لم تقتصر على أبناء الجنوب، بل امتدت أيضًا إلى المهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء، الذين يُنظر إليهم أحيانًا على أنهم عبء أو تهديد ديموغرافي. كثير منهم يعملون في ظروف صعبة دون أي حماية قانونية، ويواجهون رفضًا اجتماعيًا واضحًا. في بعض الحالات، تعرض هؤلاء المهاجرون لاعتداءات عنيفة وحوادث قتل وخطاب كراهية متصاعد، دون أن يكون هناك رد فعل رسمي حازم لحمايتهم أو الحد من هذه الظاهرة.
حتى في الخارج، حمل بعض الجزائريين معهم هذه النزعات العنصرية، كما ظهر مؤخرًا في حادثة جزائرية في باريس قامت بتصوير الجناح المغربي في معرض الفلاحة، ووصفت المشاركين فيه بأنهم “مجموعة من السود”، في مشهد يعكس كيف تسربت هذه العقلية إلى بعض فئات المجتمع الجزائري حتى خارج حدوده. هذه التصرفات لا تسيء فقط إلى صورة الجزائر على المستوى الدولي، بل تعكس مشكلة عميقة تتعلق بالهوية والتقبل الاجتماعي.
على الجانب الآخر، يبدو أن المغرب الجار يقدّم نموذجًا أكثر انفتاحًا وتسامحًا فيما يتعلق بالتنوع العرقي. لا تشهد المملكة نفس الحدة من الممارسات العنصرية، حيث تتعامل الثقافة المغربية بشكل أكثر طبيعية مع التنوع العرقي واللغوي. هذا الاختلاف لا يعود إلى عوامل اقتصادية أو جغرافية، بل إلى سياسات اجتماعية وثقافية عززت التعددية والتعايش بشكل أكثر فاعلية.
تاريخيًا، تعود جذور العنصرية في الجزائر إلى الحقبة الاستعمارية، حيث سعى المستعمر الفرنسي إلى تطبيق نموذج فصل عنصري يشبه ما حدث في جنوب أفريقيا. رغم الاستقلال، لم تختف هذه الذهنية بالكامل، بل استمرت في بعض مؤسسات الدولة والمجتمع، مما جعل التمييز العرقي أمرًا شائعًا وإن كان غير مُعلن بشكل رسمي. والمفارقة أن النظام الجزائري، الذي يدّعي الدفاع عن حقوق سكان جنوب المغرب، لم يُبدِ نفس الحرص تجاه سكان جنوب الجزائر أنفسهم، الذين يعانون من الإقصاء والتهميش المستمر. هذا التناقض يثير تساؤلات جدية حول مدى مصداقية الشعارات التي يرفعها النظام في قضايا حقوق الإنسان.
إن تفشي العنصرية في الجزائر يُشكل تحديًا كبيرًا أمام تحقيق مجتمع أكثر عدالة وانسجامًا. معالجة هذه الظاهرة تتطلب وعيًا جماعيًا، وإصلاحات قانونية تضمن المساواة الفعلية بين جميع المواطنين، وتجريم التمييز بكل أشكاله. من دون هذه الخطوات، ستبقى الفجوة قائمة، وسيستمر الجزائريون السود في مواجهة عراقيل غير مبررة داخل وطنهم، في تناقض صارخ مع المبادئ التي قامت عليها الثورة الجزائرية، والتي كان أحد أهدافها القضاء على كل أشكال الظلم والتمييز.