عندما انطلقت عملية (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر، لم يكن من هم للإعلام الغربي، وقبله كبار حكامه، سوى شيطنة المقاومة الفلسطينية في غزة، واتهامهم بكل نقيصة، افتراء وكذبا، بداية من كذبة الرئيس الأمريكي بايدن، أن المقاومة تغتصب النساء، وتقطع رؤوس الأطفال، والتي أوحى له بها رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، وظلت الأكذوبة تتردد، حتى بعد نفي البيت الأبيض حصولهم على أدلة أو مشاهد بهذه الفرية، ولكن الإصرار عند عدد من الإعلاميين الغربيين حول هذه الأكاذيب كان لافتا للنظر، وبخاصة من يخرجون للتحدث من الكيان الصهيوني على كل المستويات.



تلك فرية أطلقوها، وتركوا لخيالهم العنان في نسج ما يزيد من مدى انتشار هذه الفرية، حتى جاءهم دليل قاطع لا يتطرق إليه شك ولا ريبة في نفيها، ففي الأيام الماضية أطلقت المقاومة الفلسطينية عددا من الأسرى من ذوي الحالات الحرجة والمسنة، كان آخرهم يوم الثلاثاء، وكانت صدمة الإعلام الصهيوني والغربي على حد سواء، أن شهادة المرأة جاءت قاطعة لألسنتهم جميعا التي لاكت الفرى والأكاذيب على أهل غزة شعبا ومقاومة.

قالت الأسيرة الإسرائيلية بعد خروجها: (عندما وصلنا إلى غزة، أخبرونا في البداية أنهم يؤمنون بالقرآن وأنهم لن يضرونا، قالوا سوف يعاملوننا كما يعاملون من حولهم، كنا تحت حراسة مشددة، كما جاء مسعف وطبيب وتأكدا من توفر الأدوية التي نأخذها دوما، كانوا مهتمين جدًا بالجانب الصحي، وكان لدينا طبيب ملحق يأتي كل يومين أو ثلاثة أيام ليرى ما يحدث معنا، تحملوا المسؤولية وحرصوا على إحضار الأدوية، وإذا لم تكن هناك أدوية متماثلة، فيعطوا أدوية مكافئة.

لقد كانوا طيبين للغاية ويتأكدوا من أننا نأكل جيدا، كنا نأكل نفس الطعام مثلهم، لقد عوملنا بشكل جيد، واهتموا بكل التفاصيل، كان لديهم نساء معنا يعرفن معنى النظافة الأنثوية، ويتأكدن من حصولنا على كل شيء، لقد خططت حماس لكل شيء منذ فترة طويلة، لقد أعدوا كل ما نحتاجه، بما في ذلك الشامبو والبلسم ـ إن نقص كفاءة الجيش والشاباك أضر بنا كثيرًا، لقد كنا كبش فداء للحكومة).

تلك الشهادة العفوية الصادقة من السيدة الإسرائيلية الأسيرة، وهي ذات دلالات عدة، على أكثر من مستوى. فهي أولا ـ تلقم بايدن ونتنياهو حجرا، وترمي بكل إفكهم وأراجيفهم في أقرب صندوق قمامة، فها هي واحدة من القوم، ولا يمكن أن تكون مأجورة للمقاومة، وامرأة مسنة، أي أنها من أهل الكيان الصيهوني منذ سنوات طويلة، وربما تكون من الأجيال الأولى أو الثانية على الأكثر في الكيان، ومع ذلك لم تجد بدا من قول الحقيقة أمام رقي وسمو أخلاق من أسروها.

ثانيا ـ هذا المشهد يذكرك بمشاهد ضاربة في جذور تاريخنا الإسلامي، ومنها: ما كان يرويه التاريخ لنا، عن قانون الاجتماع الإنساني في الحروب، أن المغلوب دوما يدخل في دين الغالب، وأن الإسلام وأهله كان طفرة مختلفة عن هذه القاعدة، فالتتار الذين غزوا بلاد المسلمين واحتلوها، دخلوا الإسلام، ولم يحدث العكس، وموضع الاستدلال هنا هو: الانتصار المعنوي الكبير بالرقي الأخلاقي للمقاومة، أمام آليات الإعلام المضلل، على مدى أسبوعين، لا يكل ولا يمل من حبك الحيل والأكاذيب حولها.

ثالثا ـ أكد المشهد، تمسك المقاومة بالدستور الأخلاقي الإسلامي في الحرب، كما أمر به القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، مع ثبات على ذلك، فقد وضع الإسلام أخلاقا قبل وأثناء وبعد الحرب، وكثير من المحاربين ربما تماسك في ثباته الأخلاقي قبل الحرب، لكن الكثيرين يتجاوزن أثناء وبعد الحرب، عندما يلوح له المكسب بأي ثمن، ولو على حساب تجاوز أخلاقياته، وهو ما لم نره في المقاومة، بل رأينا ثباتها عليه.

في ظل عدم خلو بيت في غزة من شهداء، وعدم خلو عائلة من عائلات غزة من شهداء كبارا وصغارا، يقينا فإن من كانت لديهم الأسيرة الإسرائيلية، استشهد لهم أقارب، ويقينا رأوا الصور والمشاهد الفظيعة، ومع ذلك لم يكن هذا الإجرام دافعا لهم للتخلي عن خلقهم في حسن معاملة الأسير، ومنهم هذه المرأة وغيرها، وهذه علامة ثبات كبرى، بل تدل على أن صاحبها انتصر على نفسه أولا، ولذا ينتظره نصر الله تعالى على عدوه.لقد كانت هذه الأسيرة وغيرها في يدي المقاومة، وقد بدأت عملية (طوفان الأقصى) وبدأت مجازر الصهاينية بالرد العنيف، الذي لم يشهده الفلسطينيون مثله من قبل، والمشاهد التي لا يتحمل المرء رؤيتها، للأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين، كل مشهد من هذه المشاهد كفيل بأن يتخلى الإنسان عن قيمه وأخلاقه، ولو للحظة غضب، وهو ما لم يحدث من المقاومة في معاملتها للأسرى، هذا الثبات الأخلاقي يحسب بشكل كبير، دينيا وعسكريا وأخلاقيا، بل هو نموذج يضرب لتماسك البناء الأخلاقي للمقاومة.

وفي ظل عدم خلو بيت في غزة من شهداء، وعدم خلو عائلة من عائلات غزة من شهداء كبارا وصغارا، يقينا فإن من كانت لديهم الأسيرة الإسرائيلية، استشهد لهم أقارب، ويقينا رأوا الصور والمشاهد الفظيعة، ومع ذلك لم يكن هذا الإجرام دافعا لهم للتخلي عن خلقهم في حسن معاملة الأسير، ومنهم هذه المرأة وغيرها، وهذه علامة ثبات كبرى، بل تدل على أن صاحبها انتصر على نفسه أولا، ولذا ينتظره نصر الله تعالى على عدوه.

رابعا ـ دلت العملية، على صدق قول المقاومة، بأنهم يتبعون القرآن، ولو رجعنا للعهد النبوي في معاملة الأسرى، سنجد ما حدث يتطابق تماما معه، فبالعودة لغزوة بدر، ومعاملة أسرى الغزوة، فقد أخذ كل شخص أسيرا في بيته، يطعمه مما يطعم، بل وألبسوهم مما يلبسون، كما في حادثة ارتداء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وقد كان أسيرا في بدر، حيث كان مشركا وقتها.

بل إن من كان يتابع العباس في أسره، يحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينم في أول ليلة لأسر العباس، فسأله الصحابي عن سر ذلك؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: العباس في محبسه يئن، فسأله الصحابي: أترى أن أخفف وثاقه؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: إن شئت فافعل، ففعل ذلك، يقول الراوي: فنام العباس، ثم نام النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أصابه الأرق لعدم راحة أسير.

خامسا ـ هذا الرصيد من المواقف هو زخم كبير للمقاومة، ويجعل المقارنة بينه والعدو سهلة لمن كان منصفا، فالصور التي تودع فيها الأسيرة جنود المقاومة، والسلام الحار، لا يدل على أسير مهان ينجو من جلاديه، بل ضيف مكرم، يودع مضيفه الكريم خلقا وسماحة، فهذه الصورة ستظل رصيدا للمقاومة، وشاهدا وبرهانا يرد كذب الكذبة من الصهاينة، وصهاينة الغرب والعرب.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة الفلسطينية اسرى احتلال فلسطين مقاومة اخلاقيات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وسلم غزة من شهداء من کان

إقرأ أيضاً:

أحاديث عن السياسة.. الكذب!

 

 

"لا بُد للمحلل السياسي من أن يفهم المنظومة القيمية للشعب، وكذلك المنظومة القيمية السائدة في دوائر صنع القرار للدولة التي يتابعها ويقيم مدى تأثير تلك القيم على السياسات والإستراتيجيات"؛ فوزي حسن الزبيدي.

*************

نسبة كبيرة من الناس يعتقدون بأن السياسي يفترض أن يكون كذابا، يعتبرون الدبلوماسية هي في الحقيقة مرادفة لمفردة الكذب، وبأن السياسي الأصيل محتال ونصاب ومراوغ، وهلم جرًّا من تلك الصفات التي ما أنزل الله بها من سلطان!

في كتاب "سيكولوجية الجماهير"، كتب غوستاف لوبون: "ولأن الجماهير تحتاج إلى أوهام، فإنها تنجذب غزيريا نحو الخطباء الذين يقدمونها لها، كتوجه الحشرة إلى النور"، هنا قد نضع كلمة أوهام بجانب كلمة كذب، باختصار عندما يوهمك أحد بشيء ما وهو متعمد ذلك؛ فالواقع يقول إنه كاذب وربما محتال، لذلك تسمية الأشياء بأسمائها يختصر المسافة ويوضح الحقائق. وهناك فرق بين المجاملة الكاذبة وحُسن الخلق، لكن ليس هناك فرق بين ناقل أوهام أو ناقل كذب، المسألة أخلاقية قبل أي شيء.

أثناء التحضير للمقال قرأت عدة مصادر ووجدت بها ما لا يمكن نشره؛ لأن الموضوع أحيانا يخرج عن السياق المطروح، تصور أنك عندما تقرأ كتاب "مبادئ العلاقات الدولية" لمؤلفيه: منجست وآريجوين، أو تقرأ "الانتقال إلى الديمقراطية" للدكتور علي الدين هلال، أو كتاب "الخلافات السياسية بين الصحابة" لمحمد بن المختار الشنقيطي، أو حتى كتاب "الأمير" لمكيافيللي، وتبحث عما يفيدك في المقال، كنقل على الأقل ولا تجد ما يستحق الاقتداء لنشره، (بالطبع أقصد لهذا المقال) لاحظتُ أن الكثير من الكتاب يُجمِّلون الكذب ويطلقون عليه مفردات غير ملائمة مثل: دبلوماسبة أو مجاملة أو التفاف أو إيحاء بكلمة معينة، لكن في الحقيقة أن الكذب هو الكذب.

بالطبع الكتب السالفة الذكر غنية بالفائدة، وليست بحاجة لشهادة أحد، إنما أحدثك عمّا طرأ في البال أثناء التحضير، فإن كنت مخطأً، فالله من وراء القصد.

سأعطيك مثالًا عن السياسي الذي لا يفصح ويحافظ على السرية وبنفس الوقت لم يرتكب الكذب، تخيل مؤتمرًا صحفيًا أو لقاءً مع سياسي خارج للتو من اجتماع يناقش حدثًا مهمًا وساخنًا، فيسأله الصحفي: ما الذي حدث في الاجتماع؟ فيرد السياسي بأنه تمت مناقشة المواضيع ذات الاهتمام، وبُذلت جهود لتقريب وجهات النظر، ولا نملك سوى التفاؤل بقادم الأيام. مما سبق هل صرح المسؤول بشيء؟ لا، هل أفصح عن شيء؟ لا، والأهم: هل كذب؟ لا، هذا هو المهم، والأهم في الواقع .

صحيحٌ أن السياسي يتحمل مسؤولية جسيمة في نقل الحالة الحاصلة بكل صدق وموضوعية، ولكن إن حدثت في الاجتماعات أشياء غير قابلة للنشر ومحظورة، فعليه ألّا يقع في الكذب، ويتعامل مع الكلمات بحذر وتحفظ، توافقًا مع المصلحة العامة للاتفاق المبرم. وفي ذلك احترام لنفسه وللجهة التي يمثلها، ولعامة الجمهور.

أما توزيع الأوهام، واللعب بكلمات متقاطعة لها إيحاء معين، فهنا نحن أمام كذب من نوع بذيء!

أن تكون سياسيًا فهذا معناه أنك ناضج العقل، حسن السيرة، كيِّس السمت، غزير المعرفة، عالي الخلق، ملتزم وصادق وأمين، أما غير ذلك فلك أن تعطي الشخص أي صفة أخرى؛ فالدبلوماسية لها أصول، وهي علم راقٍ يُدرَّس في مجمعات ومعاهد العلم المتخصصة، التي تخرِّج سياسيين على مستوى عالٍ، لهم شخصياتهم المحترمة ويتعاملون مع مصالح بلدانهم بمنتهى المسؤولية والتفاني.

قال تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (الرعد: 17).

 

 

يوسف عوض العازمي

 

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • طبول الحرب تدق.. ترامب يدعو لضرب المنشآت النووية.. والحوثيون يهددون بمهاجمة المصالح الأمريكية والبريطانية.. وتراجع الاهتمام بقضية الأسرى الإسرائيليين
  • عائلات الأسرى الإسرائيليين: نتنياهو تخلى عن أسرانا من أجل منصبه
  • عائلات الأسرى “الصهاينة” :”نتنياهو” قرر التخلي عن الأسرى من أجل مجده
  • عائلات الأسرى الإسرائيليين في غزة يقررون الإضراب عن الطعام أمام الكنيست
  • أحاديث عن السياسة.. الكذب!
  • عام على "الطوفان الهادر" ضد الاحتلال.. صمود أسطوري للمقاومة والشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة والتجويع
  • حركة المجاهدين الفلسطينية تبارك للمقاومة العراقية عمليتها النوعية في الجولان المحتل
  • حشود جماهيرية في 73 ساحة بالحديدة دعما للمقاومة في غزة ولبنان
  • خامنئي: إسرائيل لن تنتصر أبدا على حماس وحزب الله ولا تراجع للمقاومة مهما اغتالوا من رجالاتها
  • شواظ والغول والياسين أدوات للمقاومة والسهم الأحمر دليل دقتها