الكتاب: إشكالية الخلط بين الإرهاب الدولي والمقاومة المسلحة (حالة المقاومة الفلسطينية)
الكاتب: د. أمحمدي بوزينة آمنة
الناشر: مجلة جامعة الإسراء للعلوم الإنسانية: العدد الأول يوليو 2016
عدد الصفحات 60 صفحة.

ـ 1 ـ

بين الإرهاب والمقاومة المسلحة اختلاف جوهري. ومع ذلك كثيرا ما يحصل لبس في الأذهان بين الظاهرتين.

ولا تجد الباحثة أمحمدي بوزينة آمنة في دراستها "إشكالية الخلط بين الإرهاب الدولي والمقاومة المسلحة (حالة المقاومة الفلسطينية)" ذلك اعتباطيا. فقد سعت بعض الدّول لإحداث فجوة قانونية منتجة لمثل هذا الخلط. وجعلت منها  أداة سياسية وإعلامية لتشويه شرعية نضال الشعوب والمس بسمعة الحركات التحررية التي تلجأ إلى خيار المقاومة المسلحة في سبيل تحقيق تطلعاتها إلى الحرية والاستقلال. فتصدّت لكل مشروع جادّ يحاول أن يقدّم تعريفا للإرهاب فيه من الدّقة والشمول ما يجعله قاعدة تعتمد في تصنيف أنواع العنف بما يتوافق مع القانون الدّولي.

وأيقنت أنّ اللبس في أذهان الرأي العام العالمي، يؤثر بشكل سلبي على شرعية المقاومة الفلسطينية ويؤدي إلى إضعاف برامجها العملية الخاصة بإستراتيجية مقاومة الاحتلال، وفي الآن نفسه يحدّ من قدرة فصائل المقاومة الفلسطينية على توحيد آليات عملها.

أما على المستوى الدّولي فيكون  آلية طيّعة للطعن في المقاومة المشروعة وتصويرها على أنها إرهاب. ثم يكون ذلك سبيلا للحد من تأييدها على مستوى الرأي العام العالمي والمبرّر "القانوني والأخلاقي" لمحاولة تصفيتها عسكريا. ففي كل عدوان للآلة الحربية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، نلمس بجلاء ضغط الولايات المتحدة الأمريكية على حركات المقاومة المسلحة بناء على هذا اللبس. وسريعا ما تتجاوب معها مختلف الدول الأوروبية التي تسير في ركابها. وإيمانا من الباحثة بجدوى التمييز بين مصطلح المقاومة المسلحة وبين الإرهاب على المستويين النظري أو العملي، تجعل من أهدافها الوقوف على معيار يفصل بين الظّاهرتين في هذه الدراسة.

ـ 2 ـ

تستهدف الدّراسة تحديد الفوارق الأساسية بين مفهومي الإرهاب والمقاومة المسلحة بدقّة إذن. وعليه تعود الباحثة إلى محاولات "التعريف الفقهي للإرهاب " لتبحث في مدى انسجامها مع القانون الدولي. وتفيد من رأي الفقيه جون براون (John Brown) القائل إننا إذا ما أردنا تعريف الإرهاب تعريفا مقبولا، فعلينا ألاّ ندخل في معناه الاعتبارات السياسية.

ولكن بين هذا الطموح وما يتحقّق عمليّا بون كبير. فاستقراؤها لمحاولات تعريفه ينتهي بها إلى نتائج محبطة. فقد وعرف جيفانوفيتش (Gevanovitch) مثلا، بأنه "أعمال من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الإحساس بالتهديد؛ مما ينتج عنه الإحساس بالخوف من الخطر بأية صورة". 

اللبس في أذهان الرأي العام العالمي، يؤثر بشكل سلبي على شرعية المقاومة الفلسطينية ويؤدي إلى إضعاف برامجها العملية الخاصة بإستراتيجية مقاومة الاحتلال، وفي الآن نفسه يحدّ من قدرة فصائل المقاومة الفلسطينية على توحيد آليات عملها.ورأى الأستاذ شميد (Schmid) من خلال كتابه الإرهاب السياسي الصادر عام 1983 أن الإرهاب ينشأ من "أساليب الصراع الذي تُدفع فيه الضحايا جزافا كهدف عنف فعال، وتشترك هذه الضحايا الفعالة مع جماعة أو طبقة في خصائصها مما يشكل أساسا لانتقائها من أجل التضحية بها من خلال الاستخدام السياسي للعنف أو التهديد الجدي به ويجعل أعضاء تلك الجماعة أو الطائفة الآخرين يوضعون في حالة من الخوف المزمن".

وفي مختلف الحالات التي درستها اكتفى الباحثون بنقل التعريفات السارية والجمع بينها جمعا لا يلامس جوهر الظاهرة بقدر ما يفتح على خلطها بأنواع أخرى من العنف المشروع على مستوى القانون الدولي. ولعلّ التعريف الأكثر جدية هو ما قدّمه الباحث اللساني والمفكر والأكاديمي الأمريكي نعوم تشومسكي. فقد عرّف الإرهاب بأنه "محاولة الإخضاع القسري للسكان المدنيين وإجبار حكومة ما عن طريق الاغتيال أو الخطف أو أعمال العنف لتحقيق أهداف سياسية".

ويضيف ناقدا التعاطي الأمريكي مع الظاهرة "أننا نلاحظ أن ما يرتكبه الطرف الآخر يعتبر الإرهاب بعينه في نظر الولايات المتحدة الأمريكية، أما ما ترتكية الولايات المتحدة الأمريكية من فضائع ومجازر وتجويع للأطفال به هو عمل مشروع، لأنه يحقق لها مصالحها القومية والإستراتيجية".

ـ 3 ـ

ولتصوغ التعريف الذي تراه متوازنا تستأنس أمحمدي بوزينة آمنة ببعض التعريفات المضمنة في الاتفاقيات الدولية والإقليمية. فقد ورد في المادة الأولى من الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب لعام 1998 أنه "كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أيا كانت بواعثه أو أعراضه يقع تنفيذا المشروع إجرامي فردي أو جماعي ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر".

وجاء في البند الثالث من هذه المادة أنه "أيُّ جريمة أو شروع فيها ترتكب تنفيذا لغرض إرهابي في أي من الدول أو على رعاياها أو ممتلكاتها أو مصالحها ويعاقب عليها قانونها الداخلي". فتوسع دائرته إلى عمليات خطف الطائرات أو القرصنة البحرية، والأعمال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الطيران المدني والجرائم المرتكبة ضدّ الأشخاص المشمولين بالحماية الدولية بمن فيهم الممثلون الدبلوماسيون.

تخلص أمحمدي بوزينة آمنة من خلال عمليات الاستقراء هذه إلى أنّ "الإرهاب الدولي، قد تم تناوله في اتجاهات متنوعة؛ مما نتج عنه مجموعة من التعريفات المتباينة" وتقدّر " أن السبب الرئيسي في عدم الاتفاق على تعريف موحد للإرهاب الدولي يرجع إلى أن دوافع المصلحة الخاصة بكل دولة أو تجمع هي العائق الأساسي أمام التوصل إلى تعريف محدد ومتفق عليه للإرهاب".

فتجد وراء كل صياغة ما اعتبارات سياسية ذات علاقة بمصالح الدول التي تعمل على صياغتها. وبناء على ذلك تحاول أنّ تقدّم ما تراه تعريفا أكثر شمولية وتوافقا مع القوانين الدولية وهو: "كل استخدام للعنف أو التهديد به في إطار غير مشروع بواسطة أفراد أو جماعات أو دول ضد أشخاص أو هيئات أو مؤسسات أو ممتلكات عامة أو خاصة، بهدف التأثير على سلطة أو أشخاص معينين من خلال نشر حالة من الرعب والفزع أو ما شابه ذلك من أجل تحقيق أهداف معينة ليس لها أساس من المشروعية".

ـ 4 ـ

تحاول الباحثة أن تعتمد الاستقراء نفسه للوصول إلى مفهوم "المقاومة المسلحة". فتستعرض جملة من التعريفات، منها وثيقة مفهوم الإرهاب والمقاومة الصادرة عن مركز دراسات الشرق الأوسط في الأردن في يوليو 2003.  وينتهي بها الاستقراء إلى أنّ المقاومة المسلحة  تعبير يشار به إلى العمليات ذات الطابع العسكري ينفّذ ضد السلطات القائمة بالاحتلال أو قواتها فوق الأراضي المحتلة أو ضد الأهداف العسكرية وما في حكمها فوق إقليم الدولة المحتلة أو خارجها.

ويرمي استخدام القوة المسلحة في مثل هذا الحال إلى الدفاع عن الوطن بغاية تحرير الأراضي وطرد المحتل منها. وللمقاومة المسلحة أن تكون في شكل تنظيم يخضع لإشراف سلطة قانونية أو واقعية. ولها أن تعمل بناء على مبادرتها الخاصة سواء باشرت هذا النشاط فوق الإقليم الوطني المحتل ذاته أو من قواعد خارج هذا الإقليم. وتحدّدها بكونها "استخدام مشروع لكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة لدرء العدوان وإزالة الاحتلال والاستعمار وتحقيق الاستقلال، ورفع الظلم المسنود بالقوة المسلحة بوصفها أهدافا سياسية مشروعة، وهو ما يتفق مع القانون الدولي وتؤيده الشريعة الإسلامية".

 وللمقاومة المسلحة مقومات ضرورية منها أن تكون ذات امتداد شعبي سواء قامت بها مجموعة عسكرية تنتفض ضد قوات الاحتلال أو كانت مشاركة شعبية غير نظامية تدافع عن الوطن ووجوده وأمنه. ومنها أن تتّبع حركات المقاومة في قتال العدو، الأسلوب المسلح وفقا لما قررته قواعد القانون الدولي الإنساني. فتستهدف آلته العسكرية بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك التخريب أو اعتماد أسلوب حرب العصابات.

ـ 5 ـ

إذن ما الحدّ الفاصل بين الإرهاب والمقاومة المسلحة؟ فبينهما تشابه على مستوى ممارسة العنف ضمن الهجمات العسكرية والأمنية المنظّمة وعلى مستوى الأساليب والآليات.

رغم نقاط التقاطع تلك فالاختلاف من حيث المبادئ والمفاهيم بين ظاهرتي الإرهاب والكفاح المسلح بيّن، لا يُحجب إلاّ على متواطئ أو صاحب غايات مريبة.. فالمقاومة المسلحة تتحرك وفق دافع وطني وتستند إلى مبادئ الحق والعدل وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها الذي يكفله ميثاق الأمم المتّحدة. أما الإرهاب، فيريد من العنف جانبه النفعي، فيرمي إلى تحقيق مكاسب غير مشروعة أو التأثير على جهات النفوذ والمال فلا يخلو من ابتزاز على نحو مّا. وتجري وقائعه خارج القانون. ويكون ذا طابع رمزي استعراضي، فيطرح السؤال مع كلّ عملية إرهابية من تراه يكون الضحية الموالي.

للمقاومة المسلحة أن تكون في شكل تنظيم يخضع لإشراف سلطة قانونية أو واقعية. ولها أن تعمل بناء على مبادرتها الخاصة سواء باشرت هذا النشاط فوق الإقليم الوطني المحتل ذاته أو من قواعد خارج هذا الإقليم. والعنف الإرهابي هو ممارسة مبرمجة وفق إستراتيجية هجومية تكلّف الطرف المستهدف عواقب عسكرية أو اقتصادية أو سياسية مؤلمة تجعله يرضخ إلى ذلك الابتزاز، وبدون عناصر الترهيب وإثارة الفزع اللذين يستهدفان التحكم في سيكولوجيا الطرف المقابل يتحول الإرهاب إلى عمليات قتل إجرامية عادية، كما يحدث في مدارس الولايات المتحدة بين الحين والآخر. أما عنف حركات المقاومة المسلحة فيبقى عنفا جماهيريا تمارسه جماعات أو أفراد من شعب يعمل على إرغام العدو على الاعتراف بحقوقه المشروعة الذي تكفله المواثيق الدولية ويمارس ضمن ضوابطها. ويرتبط بحقها في تقرير المصير والاستقلال، فيحظى بقبول المجتمع الدولي (عبر قوانينه لا عبر نزوات مسؤوليه وحساباتهم الانتخابية). ومن ثمّ لا يعتبر عدوانا على أحد، وإنما هو دفاع عن الأرض والمجتمع والقيم.

ـ 6 ـ

تنتهي الباحثة إلى أنّ الجهات المتنفّذة دوليا تعمل باستمرار على إضعاف المنظمات العالمية والإقليمية  والحدّ من  دورها الرقابي "المفترض". وتعرقل كلّ سعي إلى تحديد مفهوم الإرهاب التحديد الدّقيق المستند إلى القوانين والمواثيق الدولية لأنها تريد  تعريفا مرنا يتغيّر شكله بتغيّر الوقائع، فيكفل لها دائما مصالحها ومصالح حلفائها. ولذلك ينصب تركيز هذه الجهات على نتائج العنف دون البحث في أسبابه. فهنا ستتقاطع الظاهرتان ويحصل اللبس. فيُزجّ بحركات التحرّر في خندق واحد مع المنظّمات الإرهابية. ويتسنّى لها عندئذ ممارسة ازدواجيتها في التعامل والتصنيف. فتعدّ هجمات إسرائيل على الشعب الفلسطيني المرابط بأرضه ضمن عملها "المشروع في الدفاع عن النّفس"، فيما يصنّف دفاع الفلسطينيين عن أرضهم ضمن الأعمال الإرهابية.

ولذلك ترى الباحثة ضرورة التحديد الدقيق والتعريف القانوني المطلوب لكل من الإرهاب الدولي والمقاومة المسلحة. وتعتقد أنه يتعين على الجميع محاولة إيجاد الحلول الكفيلة بوضع حد للخلط ومحاولة وضع معايير واضحة. "خاصة مع إصرار الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي على الخلط المتعمد بين هاتين الظاهرتين، واتخاذ ذلك أدلة سياسية وإعلامية لتشويه الحقائق وتزيف الوقائع".

ـ 7 ـ

ربّما تساءلنا مَن هذا الذي سيوجد الحلول الكفيلة لوضع حدّ للخلط بين ظاهرتي الإرهاب والكفاح المسلّح وصوت القوى الغربية المتواطئة ضد الفلسطينيين أعلى من كلّ الأصوات؟ نعتقد أن عملية "طوفان الأقصى" وما رافقها من المواقف الغربية المنحازة كليّا لصالح إسرائيل تبرهن أن حلّ القضية الفلسطينية يمرّ عبر امتلاك أسباب القوة العسكرية والاقتصادية المؤثرة في عالم لا تُحرّك ضمائره غير المصالح الآنية. أما "مناشدة الضمائر الحية" و التعويل على تطبيق القوى العظمى للقانون الدولي الذي تدوسه، بنور يقذف فجأة في ضمائرها فتفريط في القضية تحت عناوين "نبيلة".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الإرهاب المقاومة مقاومة إرهاب كتاب مفاهيم كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المقاومة الفلسطینیة المقاومة المسلحة الولایات المتحدة القانون الدولی الإرهاب الدولی بین الإرهاب على مستوى من خلال إلى أن

إقرأ أيضاً:

حكم قول بلى بعد قراءة أليس الله بأحكم الحاكمين.. الإفتاء ترد

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم قول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾؟حيث إنَّ هناك بعض الناس بعد الانتهاء من قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه يقولون: (بلى)، سواء ذلك في الصلاة أو خارجها، فما حكم هذا القول؟". 

لترد دار الإفتاء موضحة: أنه يستحب أن يقول الإنسان: (بلى) عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، سواء كان خارج الصلاة أم داخلها، إمامًا كان المصلي أو مأمومًا، والمعنى حينئذٍ أن هذا النفي باطل، وأن الله تعالى هو أحكم الحاكمين.

ما يفعل القارئ إذا مر بآية فيها عذاب أو رحمة أو تنزيه

التدبر والخشوع عند تلاوة القرآن الكريم من الأمور المستحبة شرعًا، ومن دلائل هذا التدبر أن القارئ إذا مرَّ بآيةٍ فيها عذاب استعاذ بالله وسأل العافية، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية تنزيه نزه، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، وهذا ما فهمه العلماء من دلالة هاتين الآيتين.

قال الإمام القرطبي في " تفسيره" (15/ 192، ط. دار الكتب المصرية): [وفي هذا دليلٌ على وجوبِ معرفةِ معاني القرآن... ومن دلائل التدبر في الآيات أنه إذا مر بآية فيها عذاب استعاذ بالله وسأل العافية، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية تنزيه نزه] اهـ.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.." أخرجه الإمام مسلم.

قال الإمام النووي في" التبيان في آداب حملة القرآن" (ص: 91، ط. ابن حزم): [ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب أو يقول: اللهم إني أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كل مكروه، أو نحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جلت عظمة ربنا] اهـ.

بيان حكم قول القاريء أو المستمع "بلى" عند تلاوة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
ما جاء في السؤال من حكم قول: (بلى) عند قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه، فإن (بلَى) حرفُ جوابٍ يختصُّ بالنَّفْي لإِفادة إِبْطَالِه، ففيه ردٌّ للنفي، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي، بخلاف (نعم) فتقال في الاستفهام المجرّد.

قال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 146، ط. دار القلم): [بَلَى: ردٌّ للنفي؛ نحو قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: 80-81] ، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي نحو: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]. و(نعم) يقال في الاستفهام المجرّد نحو: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ﴾ [الأعراف: 44] ، ولا يقال هاهنا: بلى، فإذا قيل: ما عندي شيء، فقلت: بلى، فهو ردّ لكلامه، وإذا قلت: نعم، فإقرار منك] اهـ.

وعلى ذلك، فقول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ يُفيد إبطال النفي فيه وإثبات أنه تعالى هو أحكم الحاكمين جلَّ جلاله.

أما حكم قول: (بلى) عند قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه، فيختلف باختلاف حال القائل؛ وذلك أنه إما أن يكون خارج الصلاة أو داخلها، ومن هو في الصلاة إما أن يكون إمامًا أو مُقتديًا أو منفردًا.

فإذا كان خارج الصلاة فمن السُّنَّة أن يقول ذلك؛ فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْتَهَى إِلَى ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلَاتِ، فَبَلَغَ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50]، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ" رواه أبو داود في "سننه".

فأفاد هذا الحديث أن قول (بلى) عند المرور بهذه الآية من المندوبات.

قال الإمام ابن رسلان الرملي في "شرح سنن أبي داود" (5/ 23، ط. دار الفلاح): [فيه أنه يستحب لكل من قرأ في الصلاة أو في غيرها أن يقول ذلك] اهـ.

وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (5/ 156، ط. المكتبة التجارية): [(وإذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ قال: بلى)؛ لأنه قول بمنزلة السؤال فيحتاج إلى الجواب، ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه، فيكون السامع كهيئة الغافل أو كمن لا يسمع إلا دعاء ونداء من الناعق به... فهذه هبة سنية، ومن ثم ندبوا لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله الرحمة، أو عذاب أن يتعوذ من النار أو بذكر الجنة بأن يرغب إلى الله فيها، أو النار أن يستعيذ به منها] اهـ.

وأمَّا إذا كان في الصلاة، فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فقد ذهب الحنفية إلى أنه إذا كانت الصلاة جماعة فالإمام لا يقول شيئًا من ذلك سواء كانت صلاته فرضًا أم نفلًا، وكذا المقتدي فإنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء، وإذا كان المصلي منفردًا فيباح له ذلك إذا كانت صلاته تطوعًا، وتكره في الفرض.

قال الإمام بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (2/ 321، ط. دار الكتب العلمية): وهو يتكلم عن حكم قول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ وأمثالها: [أما حكم المقتدي فهو الذي ذكره، وهو أنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء. م: (لأن الإنصات والاستماع فرض بالنص).. وأما حكم الإمام فإنه لا يفعل ذلك في التطوع ولا في الفرض؛ لأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وإنه مكروه] اهـ.

وقال العلامة ابن مازه في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (1/ 378، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة في المتفرد، والجواب فيها أنه إن كان في التطوع فهو حسن؛ لحديث حذيفة قال: «صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف وسأل الله تعالى الجنة، وما مرّ بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوّذ بالله من النار، وما مر بآية فيها مَثَل إلا وقف عليها وتأمل وتفكر»، فإن كان في الفرض يكره؛ وذلك لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك، ولا عن الأئمة بعده، فكان محدثًا، وشر الأمور محدثاتها] اهـ.

وأما المالكية فنصوا على أنَّ قول: بلى عند سماع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] وما أشبه ذلك مما لا حرج فيه، ولا يؤثر على صحة الصلاة، إمامًا كان أو مأمومًا.

قال الإمام الحطَّاب في "مواهب الجليل" (1/ 544، ط. دار الفكر) [قال في المسائل الملقوطة: إذا مر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة الإمام فلا بأس للمأموم أن يصلي عليه، وكذلك إذا مر ذكر الجنة والنار فلا بأس أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ويكون ذلك المرة بعد المرة، وكذلك قول المأموم عند قول الإمام: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] بلى إنه على كل شيء قدير وما أشبه ذلك، وسئل مالك فيمن سمع الإمام يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] إلى آخرها فقال المأموم: كذلك الله، هل هذا كلام ينافي الصلاة؟ فقال: هذا ليس كلاما ينافي الصلاة أو ما هذا معناه من "مختصر الواضحة". انتهى] اﻫـ.

وقال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (1/ 267، ط.دار الفكر): [لا يكره قول الإمام عند قراءته ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]: بلى إنه على كل شيء قدير، وما أشبه ذلك. وقول المأموم عند قراءة الإمام ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾: الله كذلك، انتهى عبق. هذا يفيد أنه يستثنى من قوله وأثناء سورة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وسؤال الجنة والاستعاذة من النار عند ذكرهما، ونحو ذلك، وأن قول المأموم: بلى إنه أحكم أو قادر عند قراءة الإمام: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، أو الآية المتقدمة لا يبطل، انتهى] اهـ.

وأما الشافعية فقالوا: يستحب لكل من الإمام والمأموم قول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين عند سماع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] وما أشبه ذلك.

قال الإمام الرملي في" نهاية المحتاج" (1/ 547-548، ط. دار الفكر): [ويسن للقارئ مصليا أم غيره أن يسأل الله الرحمة إذا مر بآية رحمة، ويستعيذ من العذاب إذا مر بآية عذاب، فإن مر بآية تسبيح سبح، أو بآية مثل تفكر، وإذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] سن له أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50] يقول: آمنت بالله، وإذا قرأ: ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30] يقول: الله رب العالمين] اهـ.

وأما الحنابلة فإنهم يرون أنَّ المصلي لا يقول: بلى عند سماع هذه الآية بخصوصها؛ لأنَّ الخبر الوارد فيها عندهم فيه نظر.

قال العلامة المرداوي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (2/ 110، ط. دار إحياء التراث): [وقال أحمد: إذا قرأ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] في صلاة وغيرها قال: "سبحانك فبلى" في فرض ونفل، وقال ابن عقيل: لا يقوله فيها، وقال أيضا: لا يجيب المؤذن في نفل قال: وكذا إن قرأ في نفل ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] فقال: (بلى) لا يفعل] اهـ.

وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 211، ط. عالم الكتب): [(و) لمصل (قول: سبحانك، فبلى إذا قرأ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] نصا، فرضا كانت أو نفلا؛ للخبر. وأما ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] ففي الخبر فيها نظر، ذكره في "الفروع"] اهـ.

فالحاصل أن قول: بلى عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] خارج الصلاة سنة، والمختار للفتوى استحبابه داخل الصلاة أيضًا؛ لما فيه من دلائل التدبر والخشوع عند تلاوة القرآن الكريم، ولأنه من جملة الثناء على الله تعالى، وهو مشروع داخل الصلاة وخارجها.

الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنَّ (بلَى) حرفُ جوابٍ يختصُّ بالنَّفْي لإِفادة إِبْطَالِه، ففيه ردٌّ للنفي، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي، بخلاف (نعم) فتقال في الاستفهام المجرّد، ويستحب أن يقول الإنسان: (بلى) عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، سواء كان خارج الصلاة أم داخلها، إمامًا كان المصلي أو مأمومًا، والمعنى حينئذٍ أن هذا النفي باطل، وأن الله تعالى هو أحكم الحاكمين.

مقالات مشابهة

  • قراءة في كتاب عصر مابعد الحداثة والتغير الجزري للوعي العالمي
  • حكم قول بلى بعد قراءة أليس الله بأحكم الحاكمين.. الإفتاء ترد
  • فنانون تشكيليون يحتفون بـ ”الاختلاف“ في معرض فني بالدمام
  • السيرة النبوية ودور الإملاءات السياسية والمذهبية.. قراءة في كتاب
  • أحزاب المشترك : الضيف كان رمزا للصمود والمقاومة
  • الاحتلال يواصل اقتحام جنين بعد تعرضه لكمين والمقاومة تشتبك في طولكرم
  • رهف الجوهري تكشف عن طرقها في تخفيف الضغط النفسي على اللاعبات.. فيديو
  • الصياد.. دفاعا عن الارض والعرض وصون عزة وكرامة الشعب السوداني
  • نائب الحزب: المعادلة ستبقى الجيش والشعب والمقاومة
  • مناقشة كتاب «سردية نجيب محفوظ» لمحمد بدوي في معرض القاهرة الدولي