الجمعة 14 أبريل، الساعة السابعة مساءاً، المكان منتجع درّة وادي النيل، على الضفة الزرقاء تنمو براعم صغيرة لأشجار فوضوية اللون، أضواء النيون الخافتة تبدو مُبهجة، وعلى سطح الفندق الأنيق بسطت الكلبة آلايكا ذراعيها، تراقب ضيوف المنتجع بلهث مُتصاعد، وأنف سوداء متعرقة تشم من بعيد رائحة الغدر الكريهة، ثم تنبح بقوة كما لو أنها تتمزق من الداخل، أو أنها شعرت بموتها بعد ساعات قليلة برصاص الجنجويد، وقد رأت آلايكا حرس حميدتي الشخصي وهو يترجل من سيارة فارهة مُعتمة الزجاج، في كامل زيه الرياضي ونزقه، بمعيته آنئذٍ فتاة فائقة الجمال، مكتنزة وترتدي بنطالاً من الجينز الضيق وقميصاً يشف ما تحته من كنوز، وهى بعد قليل، تلك الفتاة التي رافقت ضابط الدعم السريع المُدلل سوف تطلب شيشة بنكهة العنب، وستبدي انزعاجها من نظرات آلايكا، وسيتركها رفيقها لوحدها بعد رنات متعجلة تطلبه حثيثا، لأمر هام وعاجل، إذ ثمة عملية لتمويه حركة قائد الدعم السريع إلى مخدعه الآمن في المنشية، أو ذلك القبو الحصين جنوب مبنى (إم تي إن).

ظل حميدتي، خلال الأشهر الأخيرة، لا ينام في بيته بحي المطار، تساوره هواجس القتل كأسوأ ما تكون حالة (البارانويا)، ولذا سيتم نقله يومياً بحافلة ركاب “شريحة” يدير فيها أحياناً بعض الاجتماعات السرية، وعلى متنها جهاز تشويش، وهى نفسها الحافلة التي رمقها حاكم إقليم دارفور في الفناء الخارجي لمنزل حي المطار، كما استرعى انتباهه أيضاً حجم القوات الأمنية وسيارات اللاند كروزر بيك أب المعززة بالراجمات ومضادات الطيران والدروع وهى ترمي بشرر كالقصر، شيء ما يحاك في الخفاء، نحو ستمائة سيارة عسكرية وحفارات بوكلين تقبع على مقربة، سيتم استخدامها في الهجوم على القيادة وبيت الضيافة، على مقر مضجع البرهان تحديداً.
مع بزوغ شمس السبت استيقظت المدينة على وقع مغامرة جريئة، أو خطة محكمة تمت مراجعتها أكثر من مرة، هنا تحديداً في مبنى المستشارية الأمنية وسط الخرطوم، الذي أخذ مسمى برج الدعم السريع، سيكون هو المقر الملائم لتحديد ساعة الصفر وإدارة عملية الانقضاض على الدولة، بطريقة خاطفة، من الأفضل أن تُشارك في الانقلاب تشكيلة خادعة من القوات النظامية، ويذيع البيان المفتش العام للجيش، حتى ولو أُكره على ذلك، وأن تمثل قوى الاتفاق الإطاري الحاضنة الشعبية، سيرفع المحامي المغمور التمام الأخير، وسيراقب حركة البرهان وكباشي عبر مكالمات مفتعلة لتحديد مواقعهم بقصد اعتقالهم فجر السبت.

داخل برج الدعم السريع تدب حركة خافتة، في الطابق الأول حيث إدارة التحكم (dmr) ينسل اللواء عثمان محمد حامد قائد عمليات الدعم السريع، يتحرك ببطء صوب مكتب عبد الرحيم دقلو في الطابق الثالث، كان عبد الرحيم يتلصص على هواتف كبار قادة الجيش، بداءاً من البرهان وكباشي، وليس انتهاءاً بياسر العطا، وكان أكثر ما يخشاه سلاح الطيران والمدرعات، ولذلك حرص على اقتناء طائرات دي جيه آي مافيك المتطورة في عمليات الاستطلاع الجوي، فيما طلب من استخباراته رفع تقريرها الأخير عن نشاط وحدات وقواعد الجيش خلال أسبوعين، وكيفية التعامل مع حالة الاستعداد القصوى، أما في الطابق الثامن فقد انزوت سكرتارية المكتب السري لقائد الدعم السريع، ونقلت ملفات مهمة إلى البدروم من الناحية الجنوبية، حيث قاعدة التحكم والسيطرة وشاشات كاميرات المراقبة، وأجهزة كشف الأسلحة والجوالات، وعلى سطح البرج تنتصب قلعة اتصالات حديدية بنظام مايكرويف تعنى بمد وتوزيع شبكات الاتصالات السرية والمشفرة إلى بقية الأبراج والمواقع العسكرية، وهى شبكة اتصالات إسرائيلية وبعضها من روسيا نظير التعاون الخاص ووعود الذهب، لكن الإشارة السرية التي صدرت بنقل إدارة النظم والاتصالات إلى معسكر صالحة، وجزء من المنظومة التقنية إلى معسكر طيبة لن يسعفها الوقت، سيتم صبيحة يوم المواجهة نسف البرج بالكامل عبر الطيران الحربي، وشل حركة السيطرة على الوحدات العسكرية للجيش، أحد أهم قادة الدعم هائم على وجهه في شرق النيل لا يعرف ماذا يفعل، وهو ما حدا بعبد الرحيم دقلو إلى الاتصال بأحد أشهر شيوخ القرآن، وطلب فتوى للإفطار في نهار رمضان، لأن جنوده بلغ بهم الجوع والعطش مبلغا عظيما، لكن المكالمة انقطعت دون أن ينفصل الخط تماماً، وقد سمع الشيخ بعض ما أطار النعاس من عينيه.

على امتداد تقاطع باحة شارع القصر مع الجمهورية كان الهواء أكثر خفة، وضوء مصابيح التاتشرات الذاوي يلمع مع أول خيوط الفجر، وهى تتحفز للهجوم على القيادة من الناحية الغربية، تم الاستيلاء على القصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون مع أول دوران عقارب ساعة الصفر، إلا أن الهجوم على بيت الضيافة سوف يصطدم بقوة فولاذية من الحرس الرئاسي، التي كان سيفها أحمر الحد ثقيلا، وهى نفسها الكتيبة الصغيرة البطولية التي أجهضت أخطر مؤامرة على الجيش السوداني.

في التاسعة وعشرون دقيقة صباحاً سمع الباعة في طريقهم إلى السوق المركزي جلبة داخل المنظومة الإفريقية لرعاية الأمومة والطفولة، كانت تاتشرات الدعم السريع تختبئ أيضاً هنالك، بل في كل مكان، وقد تحولت كثير الفلل والبيوت المملوكة لأسرة دقلو في الرياض وكافوري إلى ثُكنات عسكرية ومخازن أسلحة احتياطية، ثمة جُثة لتانكر وقود وسيارة ملاكي على رصيف أرض المعسكرات، داخل المدينة الرياضية بدأ اللواء مضوي حسين رئيس الاستخبارات السابق بالدعم السريع ورئيس قطاع الشرق يخيط المكان جيئة وذهابا، كان يرتدي نصف زيه العسكري ليوهم جنوده بتعرضهم لهجوم من الجيش، لكن الرصاص الأولى أنطلقت من مكان آخر، على وجه الدقة من مطار الخرطوم، حين هبطت طائرة الخطوط السعودية عند الساعة الثامنة وأربعة دقائق، وبعد عشرة دقائق فقط هجمت قوة من الدعم السريع على مدرج المطار وأشعلت النيران داخل الطائرة السعودية وفوق بعض عربات وسيور تفريغ الأمتعة، ما يعني أن الأحداث داخل المطار سبقت المدينة الرياضية بنحو ساعة تقريباً، وهو ما لاحظه بعض المعتمرين المسافرين من صالة المغادرة، حين تم حبسهم على الأرض ونثيث العرق والخوف ينمو على رقابهم.

وبينما كان حميدتي يحتضن الهاتف بيد مرتجفة على أمل سماع الخبر الذي انتظره طويلاً، قطع عليه الذعر أصعب لحظاته، وطفق يفكر في التراجع، لكن، لكن كيف؟ .. فات الأوان.
نواصل

عزمي عبد الرازق

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

فرص السلام .. و جاهزية “تقدم”

عادل إسماعيل
تداولت الأنباء خبر ترتيب الجارة مصر لمسعى جمع الأطراف السودانية التي تتجاذب تفسير الواقع المؤلم الذي يعيشه الشعب السوداني ، و نحن هنا نطلق عليه مجازا الصراع السياسي . و ليس هناك صراع سياسي في واقع الأمر ، إنما أفكار قديمة مبعثرة تجاوزها الواقع السوداني بحربه الأهلية و بثورته قبل ذلك .
فعقب الثورة التي أطاحت بحكومة الإسلاميين ، لم يكن لدى القوى السياسية و النقابية ، التي تصدرت المشهد ، برنامج عمل للانتقال السياسي من حكومة الحزب الواحد صاحب المشروع الحضاري الملفق ، إلى حكومة في مقام التحديات الكبيرة . و قد اشتكى الدكتور حمدوك ، قليل المعرفة بالفعل السياسي السوداني حينها ، من غياب هذا البرنامج .
و في حقيقة الأمر ، لم يدع شباب ثورة ديسمبر 2019 الفخيمة ، و لا يزالون لا يدعون أنهم يملكون تصورا لما بعد الإطاحة بالحزب الإسلامي الحاكم , فكانوا يقولون "تسقط بس" ، و كانوا يعتقدون أن بعد "بس" هذه تقع مسئوليته على عاتق القوى السياسية التي كانت في المعارضة ، و هو شيء منطقي منهم .
و في حقيقة الأمر ، قاد الثورة السودانية في ديسمبر 2019 ، وعيان إثنان: وعي شبابي و هو كثير الطموح و قليل المعرفة ، و وعي الطبقة الوسطى الجديدة و هو وعي قليل الطموح و كثير المعرفة . و قد تحدثنا عن ذلك في غير مقال بالتفصيل . و لكن ما نحب التوكيد عليه ، هنا ، أن هذين الوعيين لم يخرجا من مواعين الأحزاب ، حتى تساءل أحد الكتاب مندهشا: من أين خرج هؤلاء ؟ في تناص معكوس مع سؤال الطيب صالح الشهير .
و كما ترى ، جاء وعي الشباب قليلا لأنهم لم يتلقوا تعليما جيدا ، فقد جاء في استراتيجية فلسفة التعليم لحكومة الإسلاميين ، إن التعليم ينبغي أن يلبي أشواق "الأمة" و المقصود بهذا "أهل القبلة" بحسب فهم الإسلاميين للأهل و للقبلة . و توكيدا لهذا الاتجاه ، فرضت مادة "الثقافة الإسلامية" في الجامعات و المعاهد التي وضعها الدكتور عبد الحي يوسف ، و هو من السلفيين حلفاء الحزب الإسلامي الحاكم حينها ، و قيل إنه كان يشغل خمس عشرة وظيفة حكومية و يتلقى من الرئيس المطاح به شعبيا ، عمر البشير ، أموالا ضخمة (لنشر الإسلام) . و لكن مع هذا التعليم الهزيل ، كان الشباب يتلقون معرفة بصرية مبعثرة صبتها ، على عقولهم الجائعة الضيقة ، نوافير الري الفضائي المنهمرة من الأقمار الصناعية ، بما يتيح لهم مقارنة حياتهم الرثة بالحياة التي يستحقون . و هذا هو السر في مزيج الوعي القليل مع الطموح الكبير . و أما الطبقة الوسطى الجديدة ، و هم مفصولو "الصالح العام" و صغار الموظفين الذين يعتقد أنهم غير حسني الإسلام ، فقد تفرقوا في دروب الحياة يعافرونها في قطاع الاتصال و المواصلات و صناعة الأطعمة و بقية المهن الموقوتة ، و ذلك لتوفير مستلزمات الصحة و التعليم بعد ما افتخرت سلطة الإسلاميين بجعل الأخرين موردا من مواردها . فأكسبهم ذلك وعيا عمليا عنيدا استغرقه هذان البندان الملحان اللذان مثلا سجنا لطموحهما . و هذا هو السر في مزيج الوعي الكثير مع الطموح القليل هذه المرة .
فلو أدركت القوى التي تصدت لقيادة التغيير "قوى الحرية و التغيير" ، طبيعة الوعي الذي صنع الثورة ، لأدركت أن هذين الوعيين تكشحا خارج المواعين الحزبية ، و بالتالي كان عليها العمل خارج جنازيرها الحزبية ، و كيدها السياسي الكلاسيكي الصبياني .
أهدرت حكومة الانتقال زمنا ثمينا في محاكمات عقيمة و تسيير "مليونيات" تستهدف شركاءهم العسكريين ، الذين كانت تتظاهر بالعداء معهم ، كما كشفت ذلك عضو المجلس السيادي المستقيلة حينما قالت إن وزراء الحكومة المدنية لا يلتقونهم عندما يزورون القصر الجمهوري و يكتفون بالجلوس مع الشق العسكري .
لو أنجزت حكومة الانتقال شيئا حياتيا واحدا ، لثبتت الفترة الانتقالية ، و لكنها كانت في حالة تلمظ دائم للاستحواذ على السلطة ، و لم تعاد العسكر إلا بعد أن فكر العسكر في استبدالهم بمدنيين آخرين كانوا جزءا منهم . و هذا التلمظ للسلطة زين لهم إهمال الشباب و هم الركن الركين في تفجير ثورة ديسمبر 2019 الفخيمة ، حتى أنهم كانوا يتزاوغون من لقائهم حين يزورهم الشباب في مكاتبهم بحجة أنهم مشغولون . و في واقع الأمر لم تكن الحكومة الانتقالية تفعل شيئا بل كانت تنتظر البعثة الدولية ( اليونيتامز) لتعمل عملها بدلا عنها ، على كل المستويات ، حتى أن وزارة الإعلام نقلت لليونسكو ملفات الوزارة لتصيغ منها برامج إعلامية لتحقيق أهداف الثورة .. و شجع هذا الجو الخمولي أحد الوزراء الخملاء أن يقول إنهم لم يجدوا قاعدة بيانات يشتغلون عليها ، دون أن يكلف نفسه أن يشرح لنا ماذا يفعل كل يوم في مكتبه الوثير .. إن هذا العطب الأدائي ، إن لم تقل المعرفي ، جعلهم يتحججون بعرقلة "الدولة العميقة" الإسلامية لهم ، كأنهم أخذوا منها عهدا لمساعدتهم في إنجاح الانتقال . و هذا ما أتلف الانتقال و بدد زخم الثورة و أحبط الشعب السوداني ، حتى أن كاتبا محترم الكتابة ، و هو عبد الله مكاوي ، قال إن أسوأ ما في هذه الحكومة أننا مضطرون لدعمها .. و عندي ، إن هزال أداء "قوى الحرية و التغيير" و تفاهة أفكارها هو الذي نفخ الروح في الحركة الإسلامية و أطمعها في السلطة مجددا .
و كما ترى ، فإن فشل الحكومات المدنية يغري العسكر بالتدخل الغليظ في إدارة الدولة ، و هذا الأمر ينتظم كل التاريخ السياسي في السودان و في غيره . و حتى إنقلاب 21 اكتوبر الأخير ليس استثناء من ذلك ، وقد تناولناه بشئ من التفصيل في مقال حمل عنوان "نعم انقلاب و لكنه ملء تلقائي للفراغ" ، و لا ضرورة لإيراد محتواه مجددا . و ما نحب الإشارة إليه هنا ، هو أن هذه الحرب البليدة الدائرة الآن ، ما هي إلا وجه من تجليات فشل الحكومة المدنية الانتقالية و خوائها السياسي . و لا يهمني في هذا المقال من بدأ الحرب ، سواء أكانوا إسلاميي المؤسسة العسكرية أم إسلاميي ا"لدعم السريع" ، أو غيرهم . ما يهمني بالدرجة القصوى هو كيفية وقف هذه الحرب التي احتشدت فيها القبور و امتد فيها الموت حوالي هذا الشعب الكريم ..
و عندما تريد أن توقف فعلا عن الاستمرار ، فإنك تضع يدك على الفاعلين المباشرين ، و هم ، هنا ، قيادة الجيش السوداني و قيادة "الدعم السريع" ، و ليس غيرهم .
و الجيش قديم ، و ا"لدعم السريع" حديث . و الجيش كيان قومي و لعل هذا ما يفسر ميله ذات الشمال مرة و ذات اليمين مرة . كما إنه لم يصطنعه حزب سياسي ، إنما تستغله المجموعات السياسية التي نطلق عليها مجازا أحزابا في صراعها البليد و الإفنائي على السلطة . فما أن وطأت مجموعة سياسية أرض الجيش ، حتى سفحت الأخرى الدمع على موطئها ..
و في ميله ذات اليمين و ذات الشمال ، تعرض الجيش لتخريب كبير ، جاء جله مع الإسلاميين الذين كان انقلابهم قبضة إسلامية بقفاز عسكري عام 1989 . و بالرغم من هذا التخريب المدروس ، لم يطمئن الإسلاميون له ، و هم محقون في ذلك ، فأنشئوا ترياقا له قوات "الدعم السريع" ، و سامحوها في إذلالها لكبار الضباط و حموا فظائعها من إدانة المجتمع الدولي الذي يستعطفون ، الآن ، إدانته لها ..
أما "الدعم السريع" تحت قيادة حميدتي ، و هو الطرف الثاني المباشر الذي يحمل السلاح ، فأمره غريب و مسيرته درامية . كان لحميدتي رغبة جامحة ، و دعني أتجرأ و أقول و صادقة أيضا في مساعدة الشعب السوداني ليكون مقبولا رائدا لحقبة ما بعد ثورة ديسمبر 2019 . فكان انحيازه لهذه لثورة عاملا حاسما منقطع النظير لإنجاحها . فإذا كان إطلاق الرصاص حاسما في تاريخ الثوارات ، فإنه في حالة حميدتي كان صمت الرصاص هو العامل الحاسم . و كما تعلم ، يا ابن ودي ، إن في الصمت كلاما .. و بالرغم من قدرة حميدتي للتعلم السريع ، إلا أنه لم يجد حوله من يرسم له طريق القبول و الريادة . فوجد نفسه صاحب أموال ضخمة و قوة عسكرية كبيرة و لكن بلا "دماغ" ، أي بلا فكرة تعبر عنها هذه القوة و الثروة ، فجعل يبحث عن "فكرة" كما سنرى .
غني عن القول ، إن كل حركات الكفاح المسلحة بدأت بفكرة تكافح من أجلها ، بغض النظر عن صوابية هذه الفكرة و بغض النظر عن إحسان منتسبيها للتعامل مع الفكرة و غاياتها ، لكن لابد من وجودها أولا . فالفكرة إنما هي الكتاب المنير لحركة الكفاح المسلح ، تمشي على هداه ، و تجتذب بها مؤمنين جددا ، و تفتح بها مدرسة كادرها لتعلمهم السلوك المنضبط في الحرب و السلم لتحقيق مراميها . و لكن حميدتي انفصل عن الفكرة التي أنشأته ، فأصبح يبحث عن فكرة تعبر عنها قوته و ثروته . و لعل هذا ما يفسر تيه و ضياع مستشاريه ، فمرة هم يكافحون دولة 56 و مرة هم يكافحون التهميش و مرة هم يكافحون الإسلاميين "الكيزان" ، و مرة هم يكافحون من أجل المدنية و الديمقراطية . كما يفسر السلوك البربري لمسوبي الدعم السريع في المناطق التي يسيطرون عليها . ففي غياب الفكرة ، لا شيء يغري بالقتال سوى أن يقال لهم إن ما تتحصلون عليه يعتبر ملكا لكم . و بالرغم من غياب الفكرة إلا أن وجود حميدتي في بداية الحرب كان له أثر كبير في ضبط سلوك منسوبيه . فالرجل الذي كان يرغب في إعادة كتابة سيرته ليكون مقبولا في المجرى العام للمشهد السوداني ، يعلم بفطرته القوية أن الاعتداء على ممتلكات الغير و نهبهم و تخريب البنى التحتية إنما يحطم أحلامه للأبد . و لكن سرعانما أختفى الرجل ، فانطلق قمقم البربرية و الإجرام من محبسه الموقوت ، فماذا تنتظر من ثروة و سلطة بلا "دماغ" ؟؟
عاد حميدتي و هو طويل الظهر ، لكنه وجد خرابا لا يمكن إصلاحه ، و لا يمكن قبوله . على أية حال ، أنا أحب أن أصدق أنه حميدتي لكى أوقف به هذه الحرب البليدة ، فما يزال للرجل نفوذ على قوات "الدعم السريع" و إن طال ظهره .
و في الجهة المقابلة ، تجد أن "قوى الحرية و التغيير" ، و هي القلب النابض لجبهة "تقدم" ، بعد فقدانها للسلطة بانقلاب البرهان و نائبه حميدتي ، ظنت أن رفض الشارع للعسكر إنما هو دعم تلقائي لها ، فأطلقت تصريحات مهينة للعسكر ، و تأففت من الجلوس معهم مجددا ، وصل حد وصفهم بالبوت ، و للرمز دلالته ، أما حميدتي أصبح مجرد الجلوس معه انتقاصا لوزنهم "النضالي" . و لما شعرت "قوى الحرية و التغيير" بسحب السلطة من تحتها و من فوقها ، باستدراج البرهان لمجموعة منها ، عرفت في الأدب أو قلة الأدب الصحفي ، بجماعة الموز و المحاشي ، لتكون وجها مدنيا للعسكر ، و هي جماعة ظهر فسادها و هي داخل معطف "الحرية و التغيير" و لم تحرك الأخيرة ساكنا بشأنها . و أما فقدان السلطة من فوقها ، فقد جسدته السفيرة الأمريكية مولي في ، التي كانت تشرف على "الرباعية" في بيت السفير السعودي ، بقولها إن الولايات المتحدة على استعداد للتعامل مع أي حكومة مدنية و ليس بالضرورة أن تكون "قوى الحرية و التغيير" شريكا فيها . فلم تجد "قوى الحرية و التغيير" ، القلب النابض لجبهة "تقدم" ، سوى الرجوع للشوارع التي لا تخون . و لأن الشوارع لا تخون بالفعل ، فقد رفضت وجودهم بينهم و شوهدت أكثر من حالة لطردهم الخشن من "مليونيات" هذا الشارع .
و كما ترى ، أصبحت هناك "فكرة" تهيم على وجهها في طريق العراء السياسي ، تبحث عن ثروة و سلطة .. ثم لمع برق الحرب الخلب في هذا الطريق ، فإذا بها ترى في نهايته "ثروة و سلطة" تبحث عن فكرة . فهرول الهائمان نحو بعضهما ، فلما الركب بالركب التقى ، قضى حاجاته الشوق الملح (ضم الميم إلى صدرك و أشدد من أزر الحاء المهملة) .. و هذا هو السر في الانجذاب المغناطيسي بين "تقدم" و "الدعم السريع" .. إنه تحالف مصيري ، إنه تحالف سيامي يلتصقان بالرأس و السواعد .. و غني عن القول ، إن السواعد في زمن الحرب تكون أعلى كعبا .
الدكتور عبد الله حمدوك الاقتصادي الأممي ، تقبل العمل رئيسا لوزارة الانتقال ، و بالرغم من براعته الاقتصادية ، إلا أنه كان شحيح المعرفة بالفعل السياسي . و هذا ليس مستغربا ، حيث تمنع منظمة الأمم المتحدة كبار موظفيها للتوغل في العمل السياسي ضمانا لحيدتها .. هذا الرجل يملك برنامجا اقتصاديا كبيرا ، قسم فيه السودان لخمس ولايات انتاجية ، تحدث هو عنه في أخريات أيامه في الوزارة . و ظني أنه في فترة الثلاث سنوات قد عرف قدرا لا بأس به من الفعل السياسي الضروري لإنجاح هذا المشروع الاقتصادي الكبير .
قلنا أعلى هذا المقال ، إن وقف الحرب يتطلب الاقتصار على اتفاق وقف النار بين الفاعلين المباشرين . و هذا يعني بتر الصلة بين أي تفاوض عسكري الطابع و أي عمل آخر اصطلحنا عل تسميته مشروعا سياسيا . و لتستمر المجموعات السياسية أن تعك عكها بمؤتمرها الوطني أو بدونه . ما يهمني أنا وقف القتل و التشريد و العذاب ، و توصيل الأغذية و الأدوية لهذا الشعب الكريم .
بعد ترتيبات وقف الحرب ، اقترح تكوين حكومة تسيير للتعافي و الانتقال برئاسة حمدوك بعد استخلاصه من أيدي "تقدم" و نزعه منها . و لتتقدم "تقدم" من دونه كما تشاء ، و ليتقدم الإسلاميون كما يشاءون ، فموعدهم المجلس التشريعي الانتقالي بنسبة 25% أجمعين و 25% أخرى للحركات المسلحة و 50% للشباب ، و ذات النسب للجنة إعادة الإعمار . فلا وجود ل"تقدم" أو غيرها في حكومة التعافي و الانتقال ، إنما قيادة الجيش و قيادة "الدعم السريع" فحسب ، فهما اللذان أوقفا الحرب ، و هما اللذان يقع على كاهلهما فرملة منسوبيهما و القضاء على متلفي السلام فيهما إذا لزم الأمر ، سواء أكانوا إسلاميين أو غير ذلك . ثم تشكيل الحكومة من الصف الثاني في الوزارات الحالية ، الذي أطلقنا عليها من قبل "حكومة النواب" .
كان في النفس شيء يقال بشأن تضخيم "تقدم" و "الإسلاميين" لبعضهما البعض من أجل إظهار أهمية ذاتية تجعلهم مهمين في هذا المشهد الدرامي العجيب ، لكن هذا المقال قد طال ، و يحسن ختامه هنا .


adil.esmail@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • اتهامات متبادلة بين الجيش والدعم السريع بتفجير جسر في الخرطوم وقتلى بالفاشر
  • الدعم السريع يحاصر مدينة”الميرم” وموجة نزوح جماعي للسكان
  • حرب السودان.. تدمير جسر الحلفايا الرابط بين بحري وأم درمان
  • الجيش السوداني يتهم الدعم السريع بتدمير جزء من جسر رئيسي في الخرطوم   
  • الجيش يتهم «الدعم السريع» بتدمير الجزء الشرقي لجسر الحلفايا
  • “أفريكا إنتجليجنس”: شخصيات رئيسية في نظام البشير موجودة في صفوف حميدتي
  • الدعم السريع ترك خيبته هناك داخل الخرطوم
  • شاهد بالفيديو.. الفنانة ياسمين كوستي تسخر من “الدعامة” وتصفهم بالمرتزقة بعد هزيمتهم في سنار على يد الجيش وتغني لهم أغنيتها الشهيرة: (الدعم السريع قالوا لي انهار وشالوا باللوري يا قصب سنار)
  • فرص السلام .. و جاهزية “تقدم”
  • منظمة حقوقية تتهم الدعم السريع بتنفيذ “مجزرة”