حتى وقت قريب، كان يُنظر إلى أوروبا باعتبارها الملجأ الأخير للهاربين من الحروب أو من التضييقات السياسية والاقتصادية وتلك المتعلقة بالحريات الشخصية بالنسبة لشباب الشرق الأوسط (أو غيرها من بلدان العالم)، أما اليوم فيبدو أن المهاجرين يفتقدون الشعور بالأمان، بل يشعرون أن وظائفهم، سكنهم، ووجودهم بأسره مُهدد، وبالإمكان خسارتها بكل سهولة، أو تغيير حياتهم كما يعرفونها بمجرد الإدلاء برأيهم حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو إظهار أي رمز من رموز التعاطف مع الفلسطينيين مثل ارتداء الكوفية أو حمل/ تعليق/ ارتداء العلم الفلسطيني.
ثمة إرهاب فكري شرس، إذ وصلت درجات الصوابية السياسية منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة لمستويات غير مسبوقة وللحد الذي أصبحت فيه معاداة إسرائيل (وليس السامية حتى) ذنبا لا يغتفر. بل إن «السياقية» أصبحت هي الأخرى مرفوضة، أعني أن تقول أن ما فعلته حماس يأتي كرد فعل على سنوات من الإرهاب والظلم والحصار المفروض على غزة.
لم يعد يُسمح بالمظاهرات، أعني أن أي احتجاج عادة يتطلب استخراج رخصة، وهي ما أصبحت لا تُعطى إذا ما كانت المظاهرة داعمة للشعب الفلسطيني. كل هذا من شأنه أن يخلق حنقا شعبيا، إذا ما حُرم هؤلاء من التنفيس عن غضبهم بالطرق المشروعة، عبر التظاهر، أو النشاط على الشبكات الاجتماعية.
تقلقني هذه الأيام فكرة أن التعايش بين الشرق والغرب قد انتهى (بل وأشك في وجوده أصلا على النحو الذي نتخيل)، وأن التمييز الذي كان مختبئا خلف أقنعة البيروقراطية أو الاختيارات الفردية ومعادلات العرض والطلب، يصبح ظاهرا دون خجل. لطالما كانت معاداة المهاجرين غير الأوروبيين حاضرة إلا أن المستشار الألماني أولاف شولتس هذا الأسبوع دعا إلى إعادة النظر في سياسات الهجرة، وهدد بالترحيل العاجل. بالطبع المتضررون من شيء كهذا هم أولئك الأقل حظا، ممن لا يملكون جوازا ألمانيا يحميهم، ويفتقرون لأنواع الحماية القانونية والاجتماعية الأخرى.
في الصحافة الألمانية، وعندما يتم التحدث عن المجازر التي تحصل في غزة، يُشار دائما لأن الأخبار قادمة من حماس لنزع المصداقية عنها. فأنت لا تقرأ أن الغارات الإسرائيلية تسببت في مقتل أكثر من خمسة آلاف فلسطيني إلى الآن، وإنما تقول إن حماس «تدعي» ذلك، أو تقول إنه تم قصف المستشفى الذي «تُديره حماس». واستخدام لغة إدانة مباشرة لأفعال إسرائيل يُنظر إليها كما قلنا على أنها ذنوب لا تغتفر.
ما لا يفهمه الغرب في مسألة عداء السامية هذا، أن لغة الاعتراض العربية لا تتطابق بأي شكل مع تلك الغربية لأن سياقها مختلف تماما. فعندما يقول العربي (أو الشرقي ما دمنا نتحدث عن محور الشرق والغرب) «اليهود» فهو يقصد من استوطن أرضه، لا يخطر بباله عداء اليهود كما تعرفه أوروبا لأنه لم يكن يوما جزءا منه، ولأن عداءه مع اليهودي لا علاقة له بهويته كيهودي بل بكونه مستوطنا للأرض.. وهكذا فما يقوله رجل ألماني يُمكن أن يُعد عداءً للسامية، فيما لا يُعد القول نفسه كذلك عندما يخرج عن فلسطيني يعيش في ألمانيا.
الحديث عن الشرق والغرب صار اليوم حاضرا، يتم أيضا الحديث عن محور الشر ومحور الحضارة (الذي يقوده العالم الحر والمتحضر). فبينما انشغل أكاديميونا (في الغرب والشرق على حد سواء) لفترة طويلة في الحديث عن ما بعد الكولونيالية والديكولنيالية، والوقوف على الآثار الاستعمارية طويلة الأمد، وأشكال الاستعمار الخفي (الاقتصادي والثقافي) أو دراسة العنصرية الضمنية (ظانين أن العنصرية بشكلها الصريح لا يكاد يكون لها أي وجود) نعود الآن لسردية الإنسان المتحضر والإنسان البربري، ويضع الأبيض نفسه مجددا في مكان تفوق، ناظرا بدونية إلى الآخر الذي لا يشبهه، ويجيز لنفسه أن يُعامله كإنسان من الدرجة الثانية.
لا أعرف ما الذي يحدث في هذه المرحلة، لكنني أشعر أن العالم بأسره يتغير، يذهب في اتجاه لا رجعة فيه. ربما يكون هذا الصدام بين الشرق والغرب، بين الغاصب والمغتصب ليس ضروريا وحسب بل وحقيقي أيضا. تسقط أقنعة اللطافة المصطنعة وتظهر خيراتنا وشرورنا وتشتبك. لا أريد الاعتراف بأن الصراع حتمي وباقٍ إلا أن هذا ما يبدو أنه حقيقة العالم التي تتعرى الآن. حتى هوياتنا وكيف نُعرّف ونقدم أنفسنا يتغير. الحديث عن المواطن العالمي، عن الإنساني المنتمي للإنسانية بأسرها فكرة لا مكان لها في العالم الواقعي.
تعريفنا لليمين واليسار صار مختلطا وإشكاليا وصعبا. الكوفية التي ارتبطت باليسار في ألمانيا خلال الستينيات، أصبحت اليوم رمزا لليمين المتطرف، وحتى نحن الذين نعرف عن أنفسنا باعتبارنا منتمين لليسار نفشل في أن نجد قرينا يساريا غربيا يتفق معنا في هذا الموضوع تحديدا رغم الاتفاق بالعموم على القضايا الأساسية من العدالة الاجتماعية، حقوق المهمشين، والإيمان بأحقية الناس في صياغة مستقبلهم، مناهضة الخصخصة، ومعارضة الحرية التامة للسوق في تحديد شكل المجتمع.
فكرة التعايش مهددة اليوم بالانهيار. ثمة قهقرة تُعيد الناس إلى هوايتهم الأولى، وتدفعهم لرفض فكرة تعقيد الهوية وتسطيحها. فالمهاجر الذي يرى نفسه مشتملا على هذا وذاك، يرى اليوم نفسه مجبرا على الوقوف بحدية والاصطفاف في جانب ضد الجانب الآخر، في ظل الاستقطاب وتقلص المناطق الرمادية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشرق والغرب الحدیث عن
إقرأ أيضاً:
محمد بن راشد يكرم أوائل «صناع الأمل» في الوطن العربي اليوم
دبي (الاتحاد)
يكرم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، اليوم، أوائل صناع الأمل في العالم العربي، خلال الحفل الختامي للنسخة الخامسة من المبادرة الأكبر من نوعها عربياً لتكريم أصحاب البذل والعطاء الذي يجري في «كوكا كولا أرينا» في دبي، حيث ينال الفائز مكافأة مالية بقيمة مليون درهم. وإضافة إلى التغطية الواسعة للحفل الختامي للنسخة الخامسة عبر مختلف وسائل الإعلام المحلية والعربية، ستكون متابعة الحفل متاحة أيضاً على منصات التواصل الاجتماعي لمبادرة «صناع الأمل».
ويقدم الحفل الختامي للنسخة الخامسة التي استقبلت أكثر من 26 ألف طلب ترشيح خلال شهر واحد، الإعلاميان نيشان ديرهاروتيونيان، وأسمهان النقبي.
ويتابع الحضور في «كوكا كولا أرينا»، قبل تتويج صانع الأمل الأول في الوطن العربي، أوبريت غنائياً يشارك فيه مجموعة من أشهر نجوم الغناء العرب وهم: الفنانون حمود الخضر، ووليد الشامي، وبلقيس، وعمر العبد اللات. كما يشارك في الحفل الختامي للنسخة الخامسة، المغني والموسيقي العالمي «رد ون RedOne» الذي يعتبر من أشهر المؤلفين والمنتجين الموسيقيين في العالم.
يستعرض الحفل الختامي قصصاً إنسانية ملهمة لعدد من صناع الأمل في العالم العربي، الذين سخروا جهودهم ومواردهم لخدمة مجتمعاتهم، من خلال تنفيذ مبادرات ومشاريع مبتكرة أسهمت في الارتقاء بحياة الناس، وترسيخ ثقافة البذل والتكافل الاجتماعي، وذلك بحضور عدد كبير من النجوم والفنانين والمثقفين والإعلاميين ومشاهير التواصل الاجتماعي في الوطن العربي، إضافة إلى نخبة من الشخصيات المشهود لها في العمل الخيري والإنساني في دولة الإمارات.
واختارت لجنة تحكيم مبادرة «صناع الأمل»، والتي تضم نخبة من أصحاب التخصصات والكفاءات، المتأهلين إلى المرحلة النهائية استناداً إلى التأثير الإيجابي الذي حققه أصحاب هذه المبادرات في مجتمعاتهم، حيث عملت اللجنة على تقييم كل ترشيح بحسب معايير محددة تشمل موضوع المبادرة والتحديات المرتبطة بها، ودورها في صنع تغيير حقيقي وملموس، وقابليتها للوصول للشريحة المستهدفة.
واستقطبت مبادرة «صناع الأمل» منذ إطلاقها في عام 2017، أكثر من 320 ألف ترشيح، وتهدف المبادرة التي تنضوي تحت مظلة مؤسسة «مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية» إلى تسليط الضوء على صنّاع الأمل في العالم العربي، من النساء والرجال، الذين يكرِّسون وقتهم وجهدهم ومواردهم لخدمة الآخرين ومساعدة الفقراء والمحتاجين وإغاثة المنكوبين والمساهمة في تحسين الحياة من حولهم، والتعريف بمبادرات ومشاريع وبرامج صناع الأمل عبر مختلف وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، وعبر منصات الإعلام الجديد، وتعزيز شهرتهم في مجتمعاتهم وفي الوطن العربي.