ما تطرقنا إليه في مقالين سابقين حول اختلال ميزان العدالة الدولية وتصرفات دول الغرب الكبرى عبر مواقف تعكس فصاما لا يتطابق فيه منطق الحق والعدل مع منطق القوة، سيبدو أكثر قتامةً حيال ما أصبح عليه عالم اليوم الذي زالت عنه الثنائية القطبية القديمة التي حكمت سنوات الحرب الباردة -ما بعد الحرب العالمية الثانية- عند ظهور قوتين عظميين على أنقاض بريطانيا وفرنسا (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) فكان لتوازن القوى الحاكم بينهما خلال سنوات الحرب الباردة (1945 - 1990) قدرة واضحة على تدبير مركزية عالمية للأمن، مع بقاء هوامش ساخنة للحرب الباردة (لبنان - إريتريا - أفغانستان) التي تم حسمها مع زوال الثنائية القطبية بعيد عام 1990.
لقد كان منطق الحرب الباردة تحكمه قواعد وموازين تمثل رعبا استراتيجيا، يجعل من كل قطب من القطبين الكبيرين حريصا على توخي الحذر الشديد من ردود فعل القطب الآخر، بل كانت هناك مناطق واضحة لتقاسم النفوذ في العالم تعد حدود اشتباك مرعية بين الطرفين.
اليوم في ظل متغيرات كثيرة وكبيرة، مثل؛ تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1990 وظاهرة العولمة، إلى جانب ثورة المعلوماتية والاتصال (الإنترنت - السوشيال ميديا) التي تزامنت كلها في عقد واحد هو عقد التسعينيات الميلادية لا تبدو مقولة «عالم متعدد الأقطاب» التي يروج لها البعض أمرا حقيقيا، نتيجة لتلك المتغيرات الكبيرة التي أشرنا إليها آنفا.
ذلك أن الوجه الذي تغيّر به العالم من خلال تحولات العولمة وثورة الإنترنت غيّر حتى طبيعة وهوية المصالح -كما كان يتصوّرها الناس فيما قبل عام 1990، وبالتالي فإن طبيعة تلك التحولات ستفرض نفسها على نحو حساس تعبر عنه المصالح بين الدول الكبرى وتشتبك بطريقة أكثر تعقيدا بما لا يمكن تصوره من قبل.
صحيح ستبقى هناك الدعاية والأيديولوجيا، لكن ما يجعل منها أدوات مجوفة وخالية من المضمون يندرج فيما هو غير مرئي من العلاقات المعقدة والمتشابكة التي تفرضها متغيرات هوية المصالح الجديدة والمعقدة ما بعد الحرب الباردة بين الدول الكبرى، بالرغم من التكتلات المتعددة التي تنشط فيها بعض الدول -اقتصاديا وليس سياسيا- مثل منظومة بريكس وغيرها.
والحال، أن ما نراه اليوم من حال الوضع الذي تمر به القضية الفلسطينية والتجاوزات غير المسبوقة في الوقوف من قبل دول الغرب مع إسرائيل في ظل ما تفعله الأخيرة من أفعال غير مقبولة، على خلفية أحداث يوم السابع من أكتوبر ربما كان دليلا على ما نذهب إليه.
وإذا كانت قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حول عدالة القضية الفلسطينية التي صدرت خلال سنوات الحرب الباردة قد أجبرت الولايات المتحدة والغرب على الإقرار بها وعدم القدرة على استخدام حق الفيتو ضدها، آنذاك، فإن واقع اليوم للأسف بدا واضحا أنه واقع يمر فيه العالم بأوضاع مختلة على نحو أكثر خطورة من أي وقت مضى. ربما احتج البعض بنموذج اجتياح بيروت في عام 1982 وخذلان الاتحاد السوفييتي للفلسطينيين -الذين راهنوا عليه آنذاك- لكن الحقيقة أن ذلك كان قبل 7 سنوات فقط من تفكك الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي يفسر لنا عجز السوفييت عن دعم منظمة التحرير الفلسطينية وخذلان ياسر عرفات وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت إلى تونس.
لقد مارست الولايات المتحدة منذ سنوات ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي خروجا عن سلطة مجلس الأمن الدولي في أكثر من تحرك خارجي دون أن يعكس ذلك أثرا في ردود فعل دول كبيرة كالصين وروسيا ضد تحركها نتيجة لاختلال واضح في ميزان القوة الجديد الذي فرضته النتائج الاستراتيجية للحرب الباردة.
هكذا ربما كان التعويل اليوم منحصرا، فقط، على إمكان تعقل استراتيجي من طرف أمريكا وإسرائيل والقدرة على إدراك أن المصلحة الحقيقية للسلم في منطقة الشرق الأوسط والعام تكمن في حل الدولتين، بعد كل ما يمكن أن تتمخض عنه نتائج الأحداث المؤسفة الجارية اليوم في فلسطين، من مذابح، فذلك في تقديرنا هو الرهان الوحيد الذي يمكن أن يؤكد للغرب الأمريكي والأوروبي وللإسرائيليين: أن تصفية القضية الفلسطينية (كما تتصور أكثر الحكومات اليمينية تطرفا في تاريخ إسرائيل اليوم بقيادة نتانياهو) هو أمر من سابع المستحيلات. وبالتالي لا بد من حل الدولتين وإن طال السفر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد السوفییتی الحرب الباردة
إقرأ أيضاً:
موقف السعودية من القضية الفلسطينية
في سبعينات القرن الماضي أثناء الحرب العربية الإسرائيلية رفعت السعودية شعار الإسلام في مواجهة القومية العربية، ليس تمسكا وإيمانا بالمبادئ الإسلامية وإنما لتفتيت الجبهة العربية خدمة للهيمنة والمشروع الأمريكي الصهيوني الغربي، ولما ضربت دول المواجهة العربية وذهب عبدالناصر بمشروعه القومي وأتى بعده نظام آخر سلم إسرائيل وأمريكا ما لم تكن تحلم به، كانت السعودية العراب لذلك والصديق الأول للسادات، وعلى نفس النهج للنظام السعودي في إضعاف جبهة المواجهة مع إسرائيل خدمة لأمريكا وإسرائيل، كان للسعودية دور بارز في دعم حركة المقاومة الإسلامية حماس وذلك بغرض مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، وعندما شعرت السعودية أن هذه الحركة نضجت وأصبحت في مواجهة جدية مع الاحتلال الصهيوني، وقفت ضدها بكل قوة، بل إن النظام السعودي خلال طوفان الأقصى وقف إلى جانب دولة الاحتلال الصهيوني وكان المحرض مع بقية الأنظمة العربية ضد حماس والمقاومة الفلسطينية وحزب الله.. وهكذا عندما شعرت السعودية أن اليمن بعد ثورة 21سبتمبر أعلن التحرر من الهيمنة السعودية الأمريكية والانضمام لمحور المقاومة لدعم القضية الفلسطينية ومواجهة الكيان الصهيوني، أعلنت السعودية من واشنطن الحرب العدوانية على اليمن عبر تحالف دولي برعاية أمريكية ومشاركة إسرائيلية، استمر هذا العدوان والحصار الشامل تقريبا عشر سنوات ولايزال.. وكذلك الحال ما جرى من حرب وتدمير للجمهورية العربية السورية لأكثر من 14سنة، كانت السعودية رأس الحربة في هذه الحرب المدمرة لسوريا، وما ذلك إلا بسبب موقف الدولة السورية الثابت في دعم القضية الفلسطينية ودعم حركات المقاومة العربية لمواجهة إسرائيل وتحرير الأراضي العربية المحتلة.. وحسب الدكتور عبدالحميد دشتي- عضو مجلس الأمة الكويتي فإن النظام السعودي كان له دور مباشر وفاعل في تخريب الجزائر أيام الحرب الإرهابية بداية التسعينيات من القرن الماضي.. كما أن النظام السعودي لم يتوقف عند حدود الدول العربية، بل امتدت مؤامراته إلى عدد من الدول الإسلامية بغرض تطويعها للهيمنة الصهيونية الأمريكية.. وعلى هذه السيرة لما قامت الثورة الإسلامية الإيرانية ورفعت شعار التحرر من الهيمنة الأمريكية وأعلنت دعمها اللا محدود للقضية الفلسطينية، كانت السعودية في الموقع المعادي لهذه الجمهورية الفتية وكانت من أكبر الداعمين والمحرضين للحرب المفروضة على إيران من قبل النظام العراقي السابق تحت شعار القومية العربية في مواجهة الفرس، واليوم إعلامها وسياستها مسخرة لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية وإيران ومحور المقاومة خدمة لأمريكا والغرب الصهيوني، وهذه السعودية لازالت وستظل على سيرتها الأولى كقرن للشيطان الأكبر.
عضو مجلس الشورى