سارة البريكية
sara_albreiki@hotmail.com
أكتب لك للمرة الأخيرة وللمرة الأخيرة التي أتنفس بها، فلربما لن يكتب لي الله البقاء، ولربما لن نرى بعضنا مجددا، ولن تمسك يديك أطراف يدي الصغيرتين كما كنت تصفهما دومًا، وربما لن تمر عيناك وتتفحص نظرات عينيي إن كنت بخير سعيدة أم حزينة أم أتظاهر بالسعادة أم يقتلني الأسى على ما يحدث في بلدي، وكعادتك تقوم بمواساتي، وأن الخيرة فيما اختاره الله، وإننا نمر باختبار صعب، فإما أن نعبر إلى بر الأمان، وإما أن نموت، وليس أن نعبر تعني بها عدم الموت؛ ففي كلا الحالين نحن موتى، ولكن كنت تقول لي أن نستشهد ونحن راضون بما يحدث ومجاهدون بكل ما أوتينا من قوة من طاقة من مشاعر من حب من إيمان أفضل من أن نموت ونحن نلعن القدر والظروف الغابرة التي تمر بنا وتجتاحنا واحدًا تلو الآخر.
وكأن الساعة حانت وحان موعد الفراق الأبدي ولربما نلتقي في عالم آخر وربما سأراك قادما نحوي رافعا كلتا يديك مشيرا إليّ تبحث عني بين الطيور والزهور والأنهار العسلية واللبن الذي لا يشبهه شيء هنا.
إنك ستتلقى خبر استشهادي وستفرح لن يخذلني الله في هذه النقطة التي رجوتها منه، وإنما سوف يجعلك تباهي بي الجميع فأنا سأشفع لك أيضا حتى لو توقفت الحرب ولا تنسى أن تعيش بحب وتكافح في هذه الحياة كما عهدتك قويا مناضلا شغوفا دوما بالتعلم محباً للجميع ولوطنك مخلصا وصادقا فمن يخون وطنه لا يستحق أن يعيش فيها ومن يلعن هواها فهو جاحد أرعن.
هذه المرة لن أتذمر لك كعادتي، ولن اشتكي هذا الحال، ولن آسف على ما يمر بنا، فنحن شعبُ مختار، والله يحبنا، اختارنا واختصنا، نحن أقوياء وعظماء ونتحمل أكثر من الآخرين ونقوي بعضنا بعضا..
عندما تقرأ ما أكتبه لك ستعلم كم هذه القوة التي تسري في دماء الأطفال والعجزة والشباب هي قوة ربانية لا يملكها أي بشري آخر؛ فالآخرون يخافون من ظلهم الذي يمشي خلفهم ويخافون حتى النوم في الظلام، وحتى في الظلام فهم يشعلون السراج أو الشموع أو المصباح الصغير؛ كي لا يبقوا في العتمة؛ فالعتمة موحشة، أما نحن فنتأقلم سريعا.
هنا الأطفال تطير عاليا في كل دقيقة وأراها تحلق على سماء غزة وتحوم حولها في طريقها للجنة فالجنة من هنا قريبة؛ حيث رائحة المسك تملأ الأجساد المسجاة أرضا، والمسك يعبق في الأزقة، وتحت كل قصف وفوق كل أرض ملأتها دماء الشهداء الأبطال، فكيف سأحزن إنني سأكون منهم لا والذي خلقني أنا أسعد البشر، وربما السعادة الحقيقية التي لم نتذوق طعمها ونحن أحياء سنتذوقها، ونحن عابرون إلى الأفق العظيم ونرى أبواب الجنة الأبدية تفتح لنا فالحياة في الجنة حياة والعيش هنا مؤقت سنعبر ولو بعد حين.
إن الأنفاس التي تعلو وتهبط الآن وترى كل ذلك الجمال تتمنى أن تخفت لتذهب إلى مقرها الأخير ولتلاقي خالقها الذي يستحق أن نستشهد في سبيله كيف لا وهو الذي أوجدنا من العدم ونحن لاشيء يذكر فتكبرنا وتبجحنا ورأينا من أنفسنا أسطورة واستحقرنا الآخرين ومن ثم وعينا وكان الأوان قد فات فأسفا للذين لم يصحوا من سباتهم العميق وأسفا للذين يلعبون ويلهون وينسون أن القيامة آتية وأن اللقاء آتٍ لا محالة.
عندما تجدني أسألك أن تمسك يدي للمرة الأخيرة لأنني سأشعر بك فأنا لم أمت نحن لا نموت كما ترى إنما تحلق أرواحنا في سماءها ثق بأنني سأحس بيديك ولا تنسى أن تطبع قبلة على جبيني الذي لطالما كنت تطبع قبلاتك عليه وأنت عائد من مقر عملك.
حرف أخير:
اعتني بنفسك جيدا.. وثق أن فلسطين ستنتصر!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )
في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .
لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.
عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .
هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.
فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.
ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .
أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)
اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .
النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.
Mujtabā Lāzim
إنضم لقناة النيلين على واتساب