ربَّما يستغرب البعض الموقف الأميركي والغربي الدَّاعم بشكلٍ مطلق لـ»إسرائيل» والمؤيِّد لعمليَّات العقاب الجماعي للفلسطينيِّين في قِطاع غزَّة الَّتي أوقعت آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمشرَّدين. إنَّما الغريب هو الاندهاش من ذلك، والولايات المُتَّحدة ودوَل الغرب الكبرى تؤيِّد تلك الممارسات للاحتلال الإسرائيلي والَّتي تجري بشكلٍ شِبه يومي من اغتيال الفلسطينيِّين وهدم منازلهم وحرق زرعهم وتهجيرهم من أرضهم لبناء مستوطنات عَلَيْها منذ عقود.
في السِّياسة عمومًا، لا مجال للمشاعر وما تسمعه في الخُطب والتصريحات المشحونة حَوْلَ الديموقراطيَّة وحقوق الإنسان وما إلى ذلك. كُلُّ ذلك «الإنشاء» اللُّغوي لا معنى له عمليًّا حين تكُونُ المصالح على المحكِّ وحين تكُونُ أهداف الدوَل والقوى الإقليميَّة لها الأولويَّة. ولْنعُدْ للتاريخ ونسمع خُطب موسوليني وهتلر وستالين الَّتي كانت تجعل من الفاشيَّة والنَّازيَّة والديكتاتوريَّة قمَّة الإنسانيَّة! وبالمناسبة ذلك هو التراث الأوروبي الغربي الَّذي لَمْ يتغيَّرْ كثيرًا في جوهره، وإن طرأت عَلَيْه محسِّنات مِثل طلاء الحوائط دُونَ تنظيف لا ينفك «الوسخ» القَدْيم يظهر كُلَّ حين. وورثت الولايات المُتَّحدة، ما بعد الحرب العالَميَّة الثانية، كُلَّ ذلك التراث الغربي مع وراثتها دَوْر الامبراطوريَّات الاستعماريَّة القَدْيمة في أوروبا من بريطانيا وفرنسا إلى البرتغال وإيطاليا. وما ذلك الإرث إلَّا أحَد أهمِّ عوامل قوَّة أميركا وقيادتها للغرب وللعالَم أيضًا حتَّى نهاية الحرب الباردة وما بعدها. ومن بَيْنِ ذلك الإرث دعم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين الَّذي أسَّسته الامبراطوريَّة الاستعماريَّة البريطانيَّة الآفلة.
الأمْرُ إذًا لا علاقة له بما يَعدُّه البعض «عقدة ذنب» أوروبيَّة تجاه اليهود بعدما أحرقوا ملايين مِنْهم في عمليَّات إبادة وتطهير عِرقي. ولَمْ يكُنْ قادة الحركة الصهيونيَّة الأوائل يعتمدون على أيِّ «ابتزاز عاطفي» للغرب، إنَّما كانت دومًا حسابات مصالح. حتَّى ما قَبْل ذلك، وخلال الحروب الأوروبيَّة لَمْ يكُنْ هؤلاء الأثرياء الصهاينة يفكِّرون إلَّا في ثرواتهم الَّتي يريدون نقْلَها من أوروبا المنتهية إلى أميركا الصَّاعدة. ولا يُستبعد أبدًا أن تكُونَ هناك بعض الحقيقة في كتابات بعض الأوروبيِّين بأنَّ أثرياء اليهود ساعدوا النَّازيِّين في التخلُّص من فقراء اليهود في أوروبا. ولَمْ يكُنْ فيلم هوليوود الشهير «إنسايدر مان» الَّذي قام ببطولته النجم دينزل واشنطن مجرَّد خيال أدبي أو «كلام سينما»، إنَّما هناك قَدْر كبير من الحقيقة التاريخيَّة فيه.
لَمْ يتغيَّرْ أيٌّ من ذلك على مدى عقود منذ نهاية القرن الماضي، بل على العكس زاد واستفحل وعزَّزه صعود اليمين المتطرِّف في أغلب ساحات السِّياسة الغربيَّة من أوروبا إلى أميركا الشماليَّة وأستراليا وغيرها. وممَّا جعله أكثر فجاجةً أيضًا، ضَعف العالَم العربي الَّذي مزَّقته صراعاتٌ إقليميَّة واضطراباتٌ داخليَّة في دوَله وما عَدَّه الغرب صعودًا لأجيال جديدة تنفصل عن تراثها ربَّما نسيَتِ الاستعمار القديم والجديد وتتعامل بما يُسمَّى «براغماتيَّة» البنزنس مع الواقع الحالي. لكنَّ الحرب الأخيرة في فلسطين أظهرت أنَّ كثيرًا من تلك الرهانات كانت خاطئة، وأنَّ الشعوب لا يُمكِن أن تنسى بسهولة حتَّى لو قبلت أحيانًا بما يُسمَّى «الأمْرُ الواقع». وذلك في تصوُّري هو سبب الهياج الغربي والمبالغة في التداعي لدعم «إسرائيل».
في حديث مع صديق أوروبي، وهو أستاذ في أحد جامعات الغرب المرموقة، الأسبوع الماضي كان يصرخ غضبًا وهو يقول لي: «المصيبة أنَّ النَّاس العاديَّة تصدِّق أنَّ أميركا أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا تهتمُّ باليهود أو مصيرهم أو تفكِّر أصلًا في أيِّ مصلحة إنسانيَّة». وأتَّفق معه تمامًا، فلا الهرولة للتعبير عن الدَّعم لقيادات «إسرائيل» ولا الحشود العسكريَّة الغربيَّة (وأغلبها من قبيل المنظرة والتباهي) ولا مليارات الدولارات الَّتي ستنساب على «إسرائيل» تعني ما يردِّده ساسة الغرب في خِطاباتهم وتصريحاتهم. إنَّما كُلُّ ذلك الإغراق في العدوانيَّة هو تعبير عن غضب الفاشلين. فالولايات المُتَّحدة تدرك في قرارة نَفْسِها تدهور مكانتها الدوليَّة، ليس فقط بسبب صعود الصين أو غيرها، وإنَّما لعوامل ذاتيَّة أهمُّها وصول تطوُّرها الرأسمالي إلى ذروته وبداية هبوط منحنى القوَّة الاقتصاديَّة. كما أنَّ عمليَّة «فكِّ الارتباط» مع العالَم الَّتي بدأت منذ الولاية الثانية لجورج بوش الابن مطلع هذا القرن أصابت واشنطن بتخبُّط شديد في سَعْيِها للحفاظ على وضعها كقوَّة عظمى وحيدة في النِّظام العالَمي الجديد. في المقابل، نجد ألمانيا الَّتي كانت القوَّة الرئيسة قائدة للاقتصاد الأوروبي بدأت تضمحل وزادَ من تراجعها صعود اليمين فيها أيضًا. أمَّا بريطانيا وفرنسا، فحالهما ينبئ بما وصلَتَا إليه ويكاد لا يصف وضعهما أكثر من مقولة «ما دايم إلَّا وَجْه الله»، ومع ذلك يتعلقون بوَهْمِ مَجٍد قديم وقوَّة منهارة.
ذلك الإحساس بالفشل وتراجع الدَّوْر واحتمال خسارة المكانة نهائيًّا هو الدَّافع الأهمُّ لِمَا نراه الآن من اصطفاف غربي غير مسبوق خلف عمليَّات القصف غير الإنساني والقتل الجماعي للفلسطينيِّين، ومحاولة الترانسفير في عمليَّة «تطهير عِرقي» قَدْ تجعل التاريخ الأوروبي المُشين في هذا السِّياق أقلَّ وحشيَّة.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
بوادر خلاف بشأن الحوار مع إسرائيل مع انعقاد اجتماع دول الاتحاد الأوروبي
يعقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الإثنين، اجتماعا في بروكسيل، لمناقشة آخر التطورات في منطقة الشرق الأوسط، في ظل استمرار الحرب بين الجيش الإسرائيلي وكل من حركة حماس في قطاع غزة من جهة، وجماعة حزب الله في لبنان من جهة أخرى.
ويناقش المشاركون في الاجتماع، اقتراح مفوض السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، بوقف الحوار مع إسرائيل.
وكان بوريل قد ذكر في بيان قبل الاجتماع، أن اقتراحه بوقف الحوار يأتي بعد "عام من المناشدات التي لم تلق استجابة من جانب السلطات الإسرائيلية بشأن احترام القانون الدولي في الحرب في غزة".
وعلاوة على ذلك، يريد بوريل حظر استيراد المنتجات من المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ، التي تعد غير قانونية وفقا للقانون الدولي.
وفي تصريحات أدلى بها بوريل للصحفيين قبل الاجتماع، الإثنين، قال: "سأقدم لزملائي اقتراحًا لدراسة القرارات التي يمكن اتخاذها لضمان الامتثال لمجلس الشراكة (بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي) من منظور حقوق الإنسان. وأيضًا، لمعرفة التدابير التي يمكن اتخاذها لضمان الوفاء بكل الالتزامات، بما في ذلك عدم التجارة مع المنتجات القادمة من (المستوطنات) في الأراضي المحتلة، وفقًا لقواعد محكمة العدل الدولية".
وحول الوضع في قطاع غزة، اعتبر بوريل أن "الكلمات التي يمكن أن أستخدمها لشرح ما يحدث هناك قد نفدت"، مذكّرا بأن الأمين العام للأمم المتحدة، ونائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، قالا بوضوح قبل أيام قليلة إن "هناك حوالي 44,000 شخص قُتلوا في غزة".
بعد الهجومين على منزله.. كيف تتم حماية رئيس الوزراء الإسرائيلي؟ يتمتع رئيس الوزراء في إسرائيل بحماية خاصة بالنظر إلى حساسية المنصب، وهذه الحماية زادت بعد العمليات العسكرية الأخيرة التي أطلقتها إسرائيل على عدة جبهات، وانخراط رئيس الوزراء في صناعة القرار بشأنها مباشرة.واستطرد: "المنطقة بأكملها تتعرض للتدمير. 70 بالمئة من القتلى في غزة هم من النساء أو الأطفال. وإذا ألقيت نظرة على أعمار الضحايا، فإن الأعمار الأكثر تكرارًا هي للأطفال دون سن التاسعة. الأطفال دون سن التاسعة هم الفئة الأكثر تعرضًا للقتل بسبب هذه الحرب".
وبشأن إمكانية التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان، قال: "لا أرى أملًا في حدوث ذلك. لهذا السبب علينا أن نضع ضغطًا على الحكومة الإسرائيلية. وأيضًا، بالطبع، على حركة حماس".
وتابع: "يجب وضع الجانبين تحت الضغط. ولهذا السبب هناك مقترحات ملموسة اليوم على الطاولة. مقترحات ملموسة لمعرفة ما إذا كان ما يحدث في غزة يتماشى مع القانون الدولي. هذا هو الأمر الأكثر أهمية".
من جانبه، قال وزير الخارجية الهولندي، كاسبر فيلد، الإثنين، إن الكتلة الأوروبية بحاجة إلى مواصلة الحوار الدبلوماسي مع إسرائيل، وذلك في تصريحات مخالفة لاقتراح مفوض السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي بوقف الحوار مع إسرائيل.
أما وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، فأعربت، الإثنين، عن اعتقادها بأنه "لا يوجد ما يبرر عدم وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة". لكنها كانت قد رفضت، الخميس، اقتراح بوريل بتعليق الحوار السياسي المنتظم مع إسرائيل.
يذكر أن الحوار السياسي مع إسرائيل يتم تنظيمه وفقا لاتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2000.
كما تنص الاتفاقية على أن العلاقات بين الجانبين تقوم على أساس احترام حقوق الانسان والمبادئ الديمقراطية.
ولا تغطي الاتفاقية الحوار السياسي فقط، إذ تشمل أيضا التعاون الاقتصادي في مجالات مثل الصناعة والطاقة والنقل والسياحة.
وأكد دبلوماسيو الاتحاد الأوروبي أن تعليق الحوار السياسي المؤسسي، "لا يعني تعليق اتفاقية الشراكة" بين الاتحاد وإسرائيل.