جريدة الوطن:
2025-05-01@19:30:17 GMT

غضب الفشل

تاريخ النشر: 25th, October 2023 GMT

ربَّما يستغرب البعض الموقف الأميركي والغربي الدَّاعم بشكلٍ مطلق لـ»إسرائيل» والمؤيِّد لعمليَّات العقاب الجماعي للفلسطينيِّين في قِطاع غزَّة الَّتي أوقعت آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمشرَّدين. إنَّما الغريب هو الاندهاش من ذلك، والولايات المُتَّحدة ودوَل الغرب الكبرى تؤيِّد تلك الممارسات للاحتلال الإسرائيلي والَّتي تجري بشكلٍ شِبه يومي من اغتيال الفلسطينيِّين وهدم منازلهم وحرق زرعهم وتهجيرهم من أرضهم لبناء مستوطنات عَلَيْها منذ عقود.

ربَّما كانت العمليَّات الحاليَّة أقسى وأفظع وأوسع نطاقًا، لكنَّها مجرَّد تكبير لِمَا تفعله «إسرائيل» بالفلسطينيِّين منذ بدء الاحتلال. وطوال هذا الوقت، لَمْ يتغيَّرْ موقف أميركا ولا الغرب. فلا مجال للاستغراب، ومن الرهانات الخاطئة تصوُّر أنَّ تلك الدوَل ستشعر فجأة بحسٍّ «إنساني» تجاه أصحاب الأرض المظلومين.
في السِّياسة عمومًا، لا مجال للمشاعر وما تسمعه في الخُطب والتصريحات المشحونة حَوْلَ الديموقراطيَّة وحقوق الإنسان وما إلى ذلك. كُلُّ ذلك «الإنشاء» اللُّغوي لا معنى له عمليًّا حين تكُونُ المصالح على المحكِّ وحين تكُونُ أهداف الدوَل والقوى الإقليميَّة لها الأولويَّة. ولْنعُدْ للتاريخ ونسمع خُطب موسوليني وهتلر وستالين الَّتي كانت تجعل من الفاشيَّة والنَّازيَّة والديكتاتوريَّة قمَّة الإنسانيَّة! وبالمناسبة ذلك هو التراث الأوروبي الغربي الَّذي لَمْ يتغيَّرْ كثيرًا في جوهره، وإن طرأت عَلَيْه محسِّنات مِثل طلاء الحوائط دُونَ تنظيف لا ينفك «الوسخ» القَدْيم يظهر كُلَّ حين. وورثت الولايات المُتَّحدة، ما بعد الحرب العالَميَّة الثانية، كُلَّ ذلك التراث الغربي مع وراثتها دَوْر الامبراطوريَّات الاستعماريَّة القَدْيمة في أوروبا من بريطانيا وفرنسا إلى البرتغال وإيطاليا. وما ذلك الإرث إلَّا أحَد أهمِّ عوامل قوَّة أميركا وقيادتها للغرب وللعالَم أيضًا حتَّى نهاية الحرب الباردة وما بعدها. ومن بَيْنِ ذلك الإرث دعم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين الَّذي أسَّسته الامبراطوريَّة الاستعماريَّة البريطانيَّة الآفلة.
الأمْرُ إذًا لا علاقة له بما يَعدُّه البعض «عقدة ذنب» أوروبيَّة تجاه اليهود بعدما أحرقوا ملايين مِنْهم في عمليَّات إبادة وتطهير عِرقي. ولَمْ يكُنْ قادة الحركة الصهيونيَّة الأوائل يعتمدون على أيِّ «ابتزاز عاطفي» للغرب، إنَّما كانت دومًا حسابات مصالح. حتَّى ما قَبْل ذلك، وخلال الحروب الأوروبيَّة لَمْ يكُنْ هؤلاء الأثرياء الصهاينة يفكِّرون إلَّا في ثرواتهم الَّتي يريدون نقْلَها من أوروبا المنتهية إلى أميركا الصَّاعدة. ولا يُستبعد أبدًا أن تكُونَ هناك بعض الحقيقة في كتابات بعض الأوروبيِّين بأنَّ أثرياء اليهود ساعدوا النَّازيِّين في التخلُّص من فقراء اليهود في أوروبا. ولَمْ يكُنْ فيلم هوليوود الشهير «إنسايدر مان» الَّذي قام ببطولته النجم دينزل واشنطن مجرَّد خيال أدبي أو «كلام سينما»، إنَّما هناك قَدْر كبير من الحقيقة التاريخيَّة فيه.
لَمْ يتغيَّرْ أيٌّ من ذلك على مدى عقود منذ نهاية القرن الماضي، بل على العكس زاد واستفحل وعزَّزه صعود اليمين المتطرِّف في أغلب ساحات السِّياسة الغربيَّة من أوروبا إلى أميركا الشماليَّة وأستراليا وغيرها. وممَّا جعله أكثر فجاجةً أيضًا، ضَعف العالَم العربي الَّذي مزَّقته صراعاتٌ إقليميَّة واضطراباتٌ داخليَّة في دوَله وما عَدَّه الغرب صعودًا لأجيال جديدة تنفصل عن تراثها ربَّما نسيَتِ الاستعمار القديم والجديد وتتعامل بما يُسمَّى «براغماتيَّة» البنزنس مع الواقع الحالي. لكنَّ الحرب الأخيرة في فلسطين أظهرت أنَّ كثيرًا من تلك الرهانات كانت خاطئة، وأنَّ الشعوب لا يُمكِن أن تنسى بسهولة حتَّى لو قبلت أحيانًا بما يُسمَّى «الأمْرُ الواقع». وذلك في تصوُّري هو سبب الهياج الغربي والمبالغة في التداعي لدعم «إسرائيل».
في حديث مع صديق أوروبي، وهو أستاذ في أحد جامعات الغرب المرموقة، الأسبوع الماضي كان يصرخ غضبًا وهو يقول لي: «المصيبة أنَّ النَّاس العاديَّة تصدِّق أنَّ أميركا أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا تهتمُّ باليهود أو مصيرهم أو تفكِّر أصلًا في أيِّ مصلحة إنسانيَّة». وأتَّفق معه تمامًا، فلا الهرولة للتعبير عن الدَّعم لقيادات «إسرائيل» ولا الحشود العسكريَّة الغربيَّة (وأغلبها من قبيل المنظرة والتباهي) ولا مليارات الدولارات الَّتي ستنساب على «إسرائيل» تعني ما يردِّده ساسة الغرب في خِطاباتهم وتصريحاتهم. إنَّما كُلُّ ذلك الإغراق في العدوانيَّة هو تعبير عن غضب الفاشلين. فالولايات المُتَّحدة تدرك في قرارة نَفْسِها تدهور مكانتها الدوليَّة، ليس فقط بسبب صعود الصين أو غيرها، وإنَّما لعوامل ذاتيَّة أهمُّها وصول تطوُّرها الرأسمالي إلى ذروته وبداية هبوط منحنى القوَّة الاقتصاديَّة. كما أنَّ عمليَّة «فكِّ الارتباط» مع العالَم الَّتي بدأت منذ الولاية الثانية لجورج بوش الابن مطلع هذا القرن أصابت واشنطن بتخبُّط شديد في سَعْيِها للحفاظ على وضعها كقوَّة عظمى وحيدة في النِّظام العالَمي الجديد. في المقابل، نجد ألمانيا الَّتي كانت القوَّة الرئيسة قائدة للاقتصاد الأوروبي بدأت تضمحل وزادَ من تراجعها صعود اليمين فيها أيضًا. أمَّا بريطانيا وفرنسا، فحالهما ينبئ بما وصلَتَا إليه ويكاد لا يصف وضعهما أكثر من مقولة «ما دايم إلَّا وَجْه الله»، ومع ذلك يتعلقون بوَهْمِ مَجٍد قديم وقوَّة منهارة.
ذلك الإحساس بالفشل وتراجع الدَّوْر واحتمال خسارة المكانة نهائيًّا هو الدَّافع الأهمُّ لِمَا نراه الآن من اصطفاف غربي غير مسبوق خلف عمليَّات القصف غير الإنساني والقتل الجماعي للفلسطينيِّين، ومحاولة الترانسفير في عمليَّة «تطهير عِرقي» قَدْ تجعل التاريخ الأوروبي المُشين في هذا السِّياق أقلَّ وحشيَّة.

د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: العال م صعود ا

إقرأ أيضاً:

الفشل الأمريكي الذريع في اليمن

 

 

تواصل الولايات المتحدة الأمريكية عدوانها الهمجي على بلادنا من خلال الغارات الجوية التي تستهدف الأحياء السكنية والأعيان المدنية والمنشآت الحيوية في المحافظات اليمنية الحرة، في محاولة منها لانتزاع إعلان يمني بوقف عمليات الدعم والإسناد العسكري لإخواننا في قطاع غزة التي تأتي في سياق معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس التي تخوضها بلادنا كواجب ديني وأخوي وأخلاقي وإنساني ردا على جرائم الإبادة الجماعية والأرض المحروقة التي يمارسها جيش كيان العدو الصهيوني على مدى أكثر من 17شهرا بدعم وإسناد أمريكي.
الفشل والإخفاق الأمريكي في اليمن يدفع بمهفوف أمريكا وقيادته العسكرية نحو المزيد من التصعيد، للتغطية على هذا الفشل الذريغ، والذهاب للحديث عن الضربات الدقيقة والنجاحات العسكرية، والتي أثبتت الشواهد والوقائع الميدانية المباشرة من مسرح المناطق المستهدفة زيفها وكذبها وافتقارها للمصداقية، بشهادة وسائل إعلام أمريكية نجحت بكل مهنية في تفكيك كل الروايات الأمريكية الرسمية التي تحاكي الانتصارات والإنجازات التي حققها العدوان على بلادنا، حيث كشفت حقيقة التصريحات الأمريكية، وزيف انتصاراتها الخارقة للعادة، وسرابية إنجازاتها العسكرية سواء تلك التي تتحدث عن الحد من القدرات العسكرية للقوات المسلحة اليمنية، أو تلك التي تتحدث عن استهداف قيادات عسكرية تابعة لمن تسميهم (بالحوثيين) .
مجلة ذا ناشيونال إنترست الأمريكية، كانت السباقة في تحذير المعتوه ترامب بالابتعاد عن التدخل المباشر في اليمن، وعدم الاستجابة لأي دعوات لحصار ميناء الحديدة أو احتلاله، حتى ولو كان ذلك بالاشتراك مع قوى أخرى، وأرجعت المجلة ذلك لتفادي الخطر الذي قد تتعرض له أمريكا جراء ذلك، وها هي اليوم تكشف للرأي العام الأمريكي والعالمي فشل إدارة ترامب في تحقيق أهدافه المعلنة للحرب على اليمن وتؤكد تفوق ( الحوثيين ) في المواجهة رغم فارق القدرات والإمكانيات، إلا أن الحرب على اليمن ساعد القوات المسلحة اليمنية على تطوير قدراتها، و أظهرت في المقابل ضعف وفشل البحرية الأمريكية وعدم قدرتها على التصدي للعمليات الهجومية اليمنية التي تستهدف حاملات الطائرات الأمريكية والقطع البحرية التابعة لها .
وأمام تنامي الوعي الدولي وعلى وجه الخصوص داخل الشارع الأمريكي بحقيقة ما عليه الأوضاع في البحر الأحمر وما تواجه القوات البحرية الأمريكية من هجمات شبه يومية من قبل القوات المسلحة اليمنية، والتي تعكس كذب ودجل الإدارة الأمريكية في ما يخص إدعاءاتها بشأن الحد من القدرات العسكرية اليمنية، بات واضحا وجليا أن مغامرة ترامب في اليمن أسهمت وبفاعلية في تعزيز حالة الانقسام السياسي الأمريكي على مستوى الأطر الحزبية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، أو على المستوى الشعبي، حيث وجد السواد الأعظم من الأمريكيين أنفسهم في وضعية صعبة لا يحسدون عليها، وهم يشاهدون رئيسهم الذي وعدهم بإطفاء الحروب في المنطقة والعالم، والتفرغ لبناء أمريكا العظمى، يتحول إلى مشعل للحروب ومختلق للأزمات، ومصدر إساءة للولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أدخل أمريكا في دوامة من الصراعات والمهاترات والأزمات غير المبررة .
الشارع الأمريكي اليوم يدرك حجم الورطة التي أوقعهم ترامب فيها، والتي كلفتهم الكثير حتى الآن، وستكلفهم أكثر في حال استمرارها، وخصوصا بعد أن باتت أمريكا أمام معضلة استراتيجية معقدة من خلال تواجدها في البحر الأحمر، تتعلق بالتوازن بين ما تسميه الردع العسكري ( للحوثيين ) حد وصفهم، وبين استمرار التورط الباهض الكلفة في المعركة التي يخوضها مع القيادة والجيش والشعب اليمني، والتي تشير مجريات الأحداث إلى أنها تتجه نحو المزيد من التعقيد، في ظل تزايد كلفتها، المصحوبة بتنامي حجم قدرات وإمكانات القوات المسلحة اليمنية، وهو ما يعني الذهاب بالقوات الأمريكية نحو حرب استنزاف مكلفة وبالغة الخطورة، بالمقارنة مع الكلفة النسبية والمحدودة للقوات المسلحة اليمنية التي نجحت في إدارة المعركة بكل حنكة وكفاءة واقتدار .
والتساؤلات التي تطرح نفسها اليوم : هل من الممكن أن تعترف الإدارة الأمريكية بأنها لم تحسن قراءة معطيات الواقع اليمني جيدا في سياق تعاملها مع عمليات الدعم والإسناد اليمنية لإخواننا في قطاع غزة في مواجهة حرب الإبادة الجماعية الصهيونية التي يتعرضون لها، وتدرك أنها ارتكبت حماقة كبرى في إعلان الحرب على اليمن وانتهاك سيادتها، وتذهب نحو إيقاف مغامرتها والتخلي عن نزعة الغطرسة والتعالي التي يدير بها ترامب سياسة البيت الأبيض، وخصوصا بعد أن فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أهدافها المعلنة من وراء إعلان الحرب على اليمن، والتي أثبتت الأيام أنها صعبة المنال، ومستحيلة التحقق، وأن أمريكا الخاسر الأكبر فيها، وأن الحديث عن إنجازات وتحقيق أهداف مجرد أضغاث أحلام، ينسفها الواقع الميداني في مسرح العمليات القتالية، ومناطق الاستهداف نسفا، مؤكدة التفوق اليمني المشهود على رمز التفوق العسكري الأمريكي في البحر والجو، بشهادة أمريكية مثبتة الأدلة والشواهد ؟!!!.

مقالات مشابهة

  • كنت في شبابي سيئ الخلق وتبت فهل أرى عملي في ابنتي؟.. علي جمعة يرد
  • حروب وكوارث وتخبط.. ترامب يفاخر بـ”100 يوم” من الفشل
  • نفّذ عمليّات نشل.. وقوى الامن في المرصاد
  • الجابر: ما نشاهده في الهلال حاليًا أمرٌ محزن.. فيديو
  • تعزيل شبكة ري سد سحم الجولان بريف درعا الغربي
  • فايننشال تايمز: هكذا تستطيع أوكرانيا أن تفكك التحالف الغربي
  • إسرائيل تقترح تعديل اتفاقية التجارة الحرة مع أميركا
  • قراءة نقدية لمقال المجتمع الدولي والسودان
  • باحث إسرائيلي: قادة غربيون يسعون لتشويه صورة إسرائيل وكبح جماحها
  • الفشل الأمريكي الذريع في اليمن