الليلة السابقة لبست زهوها على طاولة الأمل، تمددت شموع العمر السابقات أعمدة من ضياء، وابتسامات تكاد ترسم المستقبل بألوان تنطق بكل بهجة، فالصبا ينضج في غيداء التي تودع عامها العشرين، لتستقبل عاما جديدا يشهد آخر سنة جامعية لها، ومع خلاصها تكون أوفت بوعدها لخطيبها محمد لاستكمال إجراءات الزواج. محمد الذي يقف كعريس في ليلة عيد ميلادها بلباسه الأنيق، وعطره الفواح، وغمرة سعادته ببهاء مظهر مخطوبته، لا ينازعه سعيد بسعادته، ونشوة الحياة ظاهرة على ملامحه، فاليوم هو الخامس من أكتوبر لعام يسبق عام الجمع بينه وبين مخطوبته تحت سقف واحد.

انتهت غيداء من ليلة عيد ميلادها، ولم يصالحها النوم من فرط سهرها مع حبيبها، فالسماء الدافئة تغطيهما، والبحر بصوت أمواجه الهادئة يسحر كلماتهم المتبادلة، وأحلامهما تتطاير من حولهما كفراشات ملونة، حتى أنهما سميا أبناءهم المفترضين دون خلاف أو اختلاف، لها البنات، وله البنين، ولهما خيار الغرف، ونوع الستائر والرسومات على الجدران، وما مرت على عيد الميلاد سبعة أيام حتى تحولت أحلامهما إلى حزمة دخان طائر مع غبار حرب مفاجئة دخلوها من غير موعدٍ، ولا سابق إنذار.

غيداء التي رقصت بعفوية وبراءة في السابع من أكتوبر ساعة علمت باقتحام رجال المقاومة الفلسطينية مستوطنات غلاف غزة، فقدت إحساسها بكل شيء بعد الرد الإسرائيلي على عملية الاقتحام، لم تمتد ساعات الفرح ونشوة الانتصار كثيرا حتى وصلها نبأ استشهاد خطيبها محمد بقصف عنيف استهدف العمارة السكنية المكونة من خمس طبقات، وتقطنها عشر عائلات، أقلها عددا، عروسان لم يمر عليهما الشهر الأول، غيداء التي سقطت بحوض الحزن العميق، فتشت في قوائم الشهداء عن اسم محمد فوجدته بالقائمة الخامسة لوزارة الصحة التي أصدرت إحصائية أولية لحصر شهداء حي النصر في مدينة غزة.

لم تقتنع بما حرمت منه فتحولت حياتها إلى كابوس تعيشه بعد أن قتلت أحلامها، وتعطلت رغبتها باستكمال العمر بدون محمد، ولكن والدها أصر عليها أن تخرج مع والدتها، وجدتها، وإخوتها من العمارة والنزوح باتجاه جنوب قطاع غزة، بناء على تعليمات الجيش الإسرائيلي؛ لأن غزة وشمالها باتت مناطق عسكرية محرمة على المدنيين، وهكذا فعل أغلب سكان حي النصر في الجهة الغربية من مدينة غزة، خرجت غيداء ومعها أخواتها الأربع وأخوها وسيم ابن العاشرة، فكان مستقرهم المؤقت عند خالتهم رئيفة في مدينة رفح جنوب قطاع غزة وبجوار صحراء سيناء المصرية، قالوا لهم إن المكان أكثر أمانا من غزة، وهنا قضت أيامها مع حزنها على رحيل محمد، وحسرتها الكبيرة على الغدوات الجميلة التي قتلت بسبب الحرب، حتى جاء اليوم السابع عشر من الرعب والهلع النازع للقلوب من الصدور، ليكون فارق المصير.

غيداء المحشورة مع اثنتي عشرة امرأة، وفتاة، وطفل بغرفة لا تزيد مساحتها على أربعة أمتار بأربعة أمتار ونافذة واحدة لا تمرر عليهم سوى أصوات الانفجارات العنيفة، وأغبرة محمولة برائحة القذائف والموت، ولو كانت ماء صالحا للشرب لم تجف حلوقهم متضرعة لكنها ليست ماء. في هذه الليلة بالذات كتبت غيداء على صفحتها الخاصة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي: "الحياة خسرت طعمها بعد محمد، ولم تعد قابلة للعيش بعد موت والدي وأعمامي، فلماذا أعيش بعدهم؟" الليلة لم تسلم العتمة كمال وجودها في الأفق حتى سقط صاروخ فوق عمارتهم لتلحقه عدة صواريخ من الطائرات الحربية تجعل من الطبقات الأربع كومة من ركام، استشهد من استشهد من سكانها والناجون جرحى ومبتورو أطراف، بينما غيداء التي نجت مع جهاز هاتفها باتت رهينة أنقاض بتقوس جدار عليها حماها من إطباق مميت، لحظات بعد الضربة الجوية تصحو غيداء من الصدمة وتحطم العمارة، وتأخذ صوتها بأعنف مداه لتصرخ على أحياء في الخارج طلبا للنجدة، ولوهلة تفحصت هاتفها المحمول لترسل عبره رسائل استغاثة لشقيقتها سمر وتبلغها أنها تحت الركام، وتصرخ ولا أحد يرد عليها، هي فقدت إحساسها بجسمها ولا تعلم إن كانت كاملة أم مبتورة، لكن روحها حية، وأعضاؤها قيد التفقد، ومن هول القصف المميت تحسست شقيقتها الصغرى ليال لتبلغ سمر أن أختهم في حضنها دون أن تعطيها حقيقة الموت والحياة فيها لأنها نفسها لا تعلم، كل ما قالته: "ولي.. قاعدة بصوت (أصرخ).. بعرفش إزا عايشين الباقيين..أنا مش حاسة بأشي..بس بحضني ليال.. فوقي حجارة بس". انتهت رسائل غيداء.

انتهت رسائلها ولم تنته الحرب التي قالت إن الموت قدر أغلب من كانوا هنا.

مات عيد الميلاد، وأطفأت شموعه، وجرحت أصوات الأمواج الهادئة، ولم تعد السماء مضاءة بالنجوم، بل تحولت إلى صحراء تسكنها وحوش معدنية، كل ما تصنعه هو الموت.

أكثر من خمسة آلاف شهيد في اليوم السابع عشر للحرب، عاشت غيداء أيامها لتخرج من تحت الركام وإن خرجت بكامل بدنها إلا أنها فقدت كامل عائلتها بمن فيهم ليال وسمر التي لم تصلها الرسالة الأخيرة.

• ناصر عطاالله عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين في غزة

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

دريان: عدم انسحاب العدو من الجنوب هو خرق فاضح للـ 1701 ويعرض لبنان إلى خطر جديد

وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج الآتي نصها:

"في كل عام وفي ذكرى الإسراء وغيرها من المناسبات، كنا نتحدث في الهموم والآلام على لبنان وعلى العرب والمسلمين. وما انتهت الهموم ولا حروب الإبادة والاستضعاف . لكننا هذه المرة نحمل البشرى أيضاً . فقد توقفت النار على غزة الحبيبة وتوقفت قبلها النار الاسرائيلية على لبنان . و بعد طول انتظار جری انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بأكثرية كبيرة فرحنا لها جميعاً. وإلى ذلك قام مجلس النواب بإكمال واجباته في الاستشارات الملزمة فاختار بأكثرية معبرة رئيساً للحكومة التي يجري تشكيلها الآن . وكما انفرجت على غزة ولبنان، انفرجت أيضاً على الشقيقة سورية بسقوط بل إسقاط النظام الأسدي لأنه لا خالد إلا الله سبحانه وتعالى . هي أمارات وبشائر الخير التي تتوالى على لبنان وفلسطين وسورية بحول الله وتوفيقه".

تابعت الرسالة: "فهل انتهت الآلام؟ ما انتهت بالطبع ، لكنها بدايات جديدة واعدة وواعدة جداً. ففخامة الرئيس عرفناه قائداً لجيشنا الوطني فحفظ وطوّر. وفي خطاب القسم وضع برنامجاً للتغيير يتصدى فيه لمعالجة كل المشكلات التي تراكمت لسنوات وسنوات كانت عجافاً وشكلت تهديداً لوطننا ومصائره. ومع الرئيس الجديد عاد العرب والعالم إلى لبنان مع تباشير الغد المشرق إن شاء الله للبنان وسورية وفلسطين".

أضافت الرسالة:"لقد كنا نشكو من تأخير انتخاب رئيس للجمهورية، فلا نريد أن نشكو من جديد من تأخير تشكيل الحكومة، ولا ينبغي لأي فريق سياسي أن يعطل ويضع شروطاً ومطالب تؤخر عملية التشكيل ، بل عليه التسهيل والتعاون ، والتمسك بالدستور الذي هو الحكم والفيصل لتصحيح مسار الحكم في لبنان ، نريد أن نعود إلى منطق الدولة والمؤسسات الدستورية ، وحكومة فاعلة وعاملة لخدمة الناس تنهض بالوطن والمواطن . لبنان لا يحكم إلا بالتزام مضمون وثيقة اتفاق الطائف التي وضعت بإرادة لبنانية ودعم عربي ودولي، وعلى القوى السياسية أن تحسم خيارها وقرارها ، وتخرج من عقلية المحاصّة،  وأن نكون جميعاً حصة لبنان ، وعليها أيضاً التعالي وتغليب المصلحة الوطنية ، وتقديم التنازلات المتبادلة لا لهذا الفريق أو ذاك ، إنما للبنان ، لبناء الدولة ومؤسساتها الدستورية على أسس متينة ، والتي هي بحاجة إلى جميع أبنائها".


وأشار إلى أنّه: "مهمات ومسؤوليات كبرى تنتظرنا ؛ هي مسؤوليات العمل مع فخامة الرئيس على إنفاذ مشروعه الإصلاحي الكبير. كل الوقت كانوا يحدثوننا عن فشل نظامنا وفشل دولتنا. إنما ما حصل بالأمس يبعث فينا روح لبنان الذي يأبى الاستكانة والخضوع والإخضاع ، نعم ، إنها كانت حروب الآخرين على أرض لبنان . ونحن موقنون أنه في كل مرة يتحرر فيها اللبنانيون من الضغوط فإنهم يقبلون على بعضهم ، قدرنا العيش المشترك والوحدة الوطنية في وطن الحرية والإبداع ، وما نزال نذكر شعارات الرئيس صائب سلام عم رئيس الحكومة المكلف الحالي: (لبنان واحد لا لبنانان) ، و (لا غالب ولا مغلوب) ، و(التفهم والتفاهم) ، ونذكر شعار الرئيس الشهيد رفيق الحريري: (قد يختلف اللبنانيون على الماضي ، لكنهم يجتمعون ويجمعون على المستقبل الحاضر على الدوام في أخلادهم وعزائمهم) ، علينا الالتفاف حول الدولة والدستور ووثيقة الوفاق الوطني ، للحفاظ على الاستقلال والسيادة ، لتكون لنا حياة وتكون حياة أفضل".


تابعت الرسالة: "نحن مقبلون بعون الله على نهوض كبير ، لا يصنعه غير المخلصين والعادلين والأكفاء والرحماء ، في صفوفنا شهداء كثيرون ، ومصابون كثيرون ، والمطلوب والضروري التراحم والعدل والإحسان والإصلاح والمصالحة ، والدرس الأول في هذه المحن القديمة والجديدة أن نكون صناعاً للسلام ، وأن نتجنب بالدولة القوية وبالجيش الوطني وبالنظام السياسي المنفتح خوض حروب أو الانجرار إلى حروب. ان عدم انسحاب العدو الاسرائيلي من الجنوب اللبناني هو خرق فاضح للقرار الدولي 1701 ويعرض لبنان إلى خطر عدواني جديد عليه في انتهاك سيادته واستباحة أراضيه، مما يتطلب من المجتمع الدولي الضغط على الكيان الصهيوني لتنفيذ القرار الدولي الذي يحفظ حق لبنان في أرضه، وما نشهده من عدوان اسرائيلي على الأهالي العائدين الى قراهم في الجنوب هو جريمة  ويشكل تداعيات خطيرة تستوجب المعالجة الدولية الفورية لوضع حد لهذا العمل المشين بحق كل اللبنانيين".

ختمت الرسالة: "ننوه بجهود الجيش اللبناني وقيادته بالانتشار على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة لعودة الأمن والسلام والطمأنينة الى جنوب لبنان بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة الموكلة بهذا الامر".

مقالات مشابهة

  • المبادرة الغائبة التي ينتظرها الفلسطينيون
  • أوقاف المنوفية تحتفل بذكرى الإسراء والمعراج
  • محافظ المنوفية يشهد احتفالية الإسراء والمعراج
  • الاتحاد الأوروبي يدين "الاعتقالات التعسفية"الأخيرة التي نفذها الحوثيون بحق موظفي الأمم المتحدة باليمن
  • نهيان بن مبارك يكرم الفائزين بمسابقة «تراثنا في كلمات» التي أطلقها صندوق الوطن
  • دريان: عدم انسحاب العدو من الجنوب هو خرق فاضح للـ 1701 ويعرض لبنان إلى خطر جديد
  • سلطة النقد تكشف حجم الأموال التي نُهبت من بنوك غزة خلال الحرب
  • جمعة: معجزة الإسراء والمعراج تجسيد لعظمة الرسالة المحمدية
  • معجزة الإسراء والمعراج: تجلٍّ لقدرة الله ووحدة الرسالة السماوية
  • "موضوع عائلي 3" يتصدر تريند جوجل بعد عرض الحلقة الأخيرة وأغنية أحمد سعد الدعائية تشعل الأجواء