بين غزة وأوكلاهوما.. قتلة زهرة القمر لا يتوقفون عن إبادة أصحاب الأرض
تاريخ النشر: 25th, October 2023 GMT
لعبت الصدفة دورها في تزامن إطلاق العرض التجاري لفيلم "قتلة زهرة القمر" (Killers of the Flower Moon) للمخرج مارتن سكورسيزي مع جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي أمام أعين العالم حاليا ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وبدعم كامل من الولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن موضوع الفيلم الذي تم تأجيل عرضه عامين كاملين وأعيد بناؤه أكثر من مرة، يستعرض جزءا صغيرا جدا من الإبادة الجماعية التي مارسها الأميركيون ضد السكان الأصليين لأرض أميركا.
وإذا كان "المبدع الأميركي العجوز صاحب الضمير الشاب" مارتن سكورسيزي قد طرق في أغلب أفلامه تلك المفارقة المدهشة بين رفع المسؤولين الأميركيين شعارات أخلاقية في العلن، مقابل تعاونهم، بل وصعودهم على أكتاف العصابات عبر تلقي الدعم المادي منها سرا وممارسة الاغتيالات والبلطجة لصالحها في أفلام مثل "عصابات نيويورك" (Gangs of New York) 2002 و"الرجل الأيرلندي" (The Irishman) 2019، فإن فيلمه الجديد يرصد قصة حقيقية لشخص يقبع على رأس السلطة في بلدة أميركية بولاية أوكلاهوما نهارا، بينما يمارس الإجرام والتصفية الجسدية للسكان الأصليين ليلا، طمعا في ثروتهم.
تتجسد عبقرية المصادفة في التشابه بين دولتين قامتا على فكرة إحلال شعب مكان شعب آخر، واستخدام أكثر الطرق وحشية في تنفيذ ذلك الإحلال، إحداهما قامت منذ أكثر من قرنين، والثانية قامت منذ أكثر من 70 عاما، أما الدرس الأهم فهو أن التقدم العلمي ساهم في الارتقاء بالآلات، لكنه دفع بالبشر إلى أسفل السلم الأخلاقي.
تاريخ ملوث بالغدرقبيلة "أوسيدج" (Osage Nation) هي واحدة من قبائل السكان الأصليين لأرض أميركا، تم اكتشاف النفط في أراضيها بولاية أوكلاهوما مع مطلع القرن الـ20، وخلال فترة قصيرة تحولت إلى واحدة من أغنى البلدات. اجتذبت ثروة هؤلاء الأميركيين الأصليين على الفور المهاجرين المتطفلين البيض، الذين تلاعبوا وابتزوا وسرقوا أكبر قدر ممكن من أموال "الأوسيدج" قبل أن يقرروا قتل الجميع.
وعبر قصة رومانسية بين إرنست يوركهارت (يجسد دوره ليوناردو دي كابريو) ومولي كايل، التي أصبحت مولي يوركهات بعد زواجها منه، (تجسد دورها ليلي غلادستون)، يحكي فيلم "قتلة زهرة القمر" قصة جريمة تصفية عرقية تجمع بين الخيانة في أقبح صورها والحب في أرقى حالاته.
الفيلم من بطولة روبرت دي نيرو وجيسي بليمونز، ومن إخراج مارتن سكورسيزي، الحائز على جائزة الأوسكار، والسيناريو من تأليف إريك روث ومارتن سكورسيزي.
اقتبس الفيلم عن كتاب بالاسم نفسه صدر عام 2017 للصحفي الأميركي ديفيد غران، ويوثق لمرحلة إرهاب وتصفية السكان الأصليين في العشرينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي قتل خلالها العديد من أعضاء قبيلة أوسيدج في أوكلاهوما بسبب ثروتهم النفطية، وهي جرائم قتل بقيت عالقة بدون الوصول لقاتل محدد، ويعرض الكتاب تفاصيل عمليات القتل وتحقيقات المسؤولين فيها.
وكانت أوسيدج، مثل العديد من قبائل السكان الأصليين في أميركا الشمالية، قد دفعت للهجرة من ميسوري باتجاه الغرب من قبل المستعمرين البيض، حتى استقرت أخيرا في منطقة صخرية بولاية أوكلاهوما.
كان الأصليون يأملون أن تمنع التربة الفقيرة، غير الصالحة للزراعة، القادمين الجدد البيض من إزاحتهم مرة أخرى، ولكن عندما تم اكتشاف النفط في الأرض الجديدة، أصبحت القبيلة ثرية للغاية لأنها امتلكت حقوق رأس المال في النفط والتي لا يمكن بيعها، بل تورث فقط.
ونتيجة لذلك، ابتكر المهاجر الأبيض طرقا لسرقة أموال القبيلة، وعندما أخفقت عمليات الاحتيال، لجؤوا إلى القتل. وقد حقق الكتاب مبيعات كبيرة جدا، واحتل قمة قائمة "الأكثر مبيعا" لفترة طويلة منذ صدوره عام 2017.
فيلم للتأمليقدم سكورسيزي فيلمه الجديد، كما لو كان حكيما يعيد تأمل ومراجعة قرارات سابقة اتخذت فيما مضى من سنوات، ويحرص على ذلك الإيقاع البطيء للمشاهد أيضا، ليمنحه القدرة على الكشف عن تفاصيل جديدة في مشاهد قديمة لشعب الأوسيدج، الذي يقفز فرحا باكتشاف النفط.
ثم يستعرض الفيلم التحولات التي طرأت على حياة أبناء القبيلة بدءا من الذهب الذي أقبلت النساء على شرائه وحتى السيارات الفاخرة بمعيار بدايات القرن الماضي، لكنهم يحتفظون بتقاليدهم وعباداتهم وعقيدتهم كما هي.
وبين مشاهد توثق لحياة السكان الأصليين الذين تلقوا منحة من باطن الأرض، يصل على قطار بخاري شاب ذو وجه وسيم شديد الجدية إلى محطة القطار، ليستعرض سكورسيزي، بعين رجل يتوسط عمره بداية القرن وما بعد نهايته، مشاهد المساحات العامة في بلدة صغيرة بولاية أوكلاهوما.
ويؤكد سكورسيزي من البداية أن ما يحكيه ليس خيالا صرفا، فيستخدم صورا فوتوغرافية لأشخاص سجل التاريخ الاجتماعي أنهم عاشوا في تلك المرحلة، وحين ينتقل إلى مرحلة انطلاق جحيم التوحش والقتل، لا يكتفي صانع العمل بذكر الجرائم، لكنه يستعرض بإيقاع سريع تلك الجرائم بالتفصيل، ومن ثم يعرض صور الضحايا بالأبيض والأسود.
وفي مشاهد دافئة يستعرض العمل تقاليد قبيلة الأوسيدج للاحتفال بمولد طفل، واختيار اسم له، وكذلك يؤكد على عمق ارتباط السكان الأصليين بالطبيعة ويعرض قصصهم الدينية حول زهرة القمر التي تنمو في التلال المحيطة بمنطقة إقامتهم، ويربطون جمالها بنظرة الخالق لها.
انتهازية مقبولةوقد قدمت الممثلة ليلي غلادستون أداء ناعما رصينا، يليق بامرأة ثرية تنتمي إلى قبيلة تتوفر فيها الحكمة والمعرفة العميقة بالحياة وبالنفس البشرية. وفي دور مولي يركهارت، استطاعت غلادستون أن تستخدم أصعب أدوات الممثل، وهي العيون التي أرسلت من خلالها طاقة كامنة من الطمأنينة والاستيعاب لرجل ينتمي إلى عرق مختلف، ويطمع في أموالها، ومن ثم أحبته رغم مصارحته لها أن جزءا من أسباب حبه لها هو ثراؤها.
وقدم الفيلم قصة فريدة من نوعها، إذ يعيش المهاجرون البيض على رجاء نظرة رضا من أصحاب الأرض الأصليين الذين يملكون حقوق النفط، ويعيشون حياة الثراء الفاحش، ولكنهم يملكون "قلوبا كبيرة" كما وصفهم العم "وليام هيل" (الممثل روبرت دي نيرو) الذي يقدم دور الشرير القاتل بكفاءة لا تقل عن أدوار البطولة لصالح الخير في أعماله السابقة.
العم الشرير (دي نيرو) استقبل ابن شقيقه (دي كابريو) القادم من الحرب العالمية وقد أصيب في معدته بشكل لا يسمح له بعمل يحتاج إلى جهد بدني كبير، يتفق الاثنان على ذلك ويصلان في النهاية إلى قناعة مؤداها أن الشاب المصاب سوف يعمل سائقا خاصا، وينصب شباكه حول السيدة الثرية (ليلي غلادستون) أو "مولي" ابنة العائلة التي تنتمي لقبيلة أوسيدج.
لم يكن اتفاق العم مع ابن شقيقه إلا جزءا من خطة قام بها العنصريون البيض للسطو على ثروة قبيلة أوسيدج عبر الزواج من النساء ومن ثم التخلص منهن وتوريث الأبناء، إذ كانت حقوق النفط لا تباع ولا تشترى لكنها تورث فقط، ورغم وحشية المشهد، فإن تفاصيله لم يكشف عنها إلا من خلال كتاب ديفيد غران، الذي استمر في التحقيق حول القصة البشعة نحو عقد من الزمان.
شعر أبناء القبيلة بالمؤامرة، بعد تكرار حالات القتل، وتجاوز السلطة عن التحقيق في الجريمة، لذا قال زعيم القبيلة بعد قتل شقيقته مولي (ليلي غلادستون) إن "العدو هو المسؤول عن قتل أبنائنا وبناتنا، وهو يريدنا أن نموت جميعا، ونحن لن نمانع في ذلك، لكن سنأخذه معنا".
يستدعي مشهد الاتفاق بين العم وابن الأخ تلك المشاهد التقليدية في البيوت الفقيرة لامرأة تتفق مع ابنتها على استدراج عريس غني للزواج، رغبة من الاثنتين في تأمين مستقبل الأسرة، ومن ثم تقوم الأم بالبدء في تزيين الابنة، وهي لفتة عبقرية على بساطتها، قام بها دي نيرو؛ إذ خلع قبعة ابن أخيه، مؤكدا له أنه وسيم ويستطيع إيقاع السيدة الثرية في حبه.
دي نيرو أو" وليام هيل" هو نائب عمدة فيرفاكس، البلدة التابعة لولاية أوكلاهوما، والذي يمثل السلطة في البلدة ويرعى شؤون الجميع سواء أكانوا مهاجرين أو أصليين، وهو للمفارقة المجرم الحقيقي والمخطط لجرائم التصفية الجسدية للسكان الأصليين.
اكتشاف الضميررغم عمره الذي قارب الـ80 عاما، وأفلامه التي يتجاوز عددها 70 فيلما بين روائي طويل وتسجيلي وقصير، فإن سكورسيزي قدم للمرة الأولى فيلما يمكن أن ينتمي لأفلام "رعاة البقر" أو "الكاوبوي"، ورغم ذلك فإن ذلك الطابع المميز للنسخة الجديدة من المخضرم، والتي ظهرت مع فيلم "الرجل الأيرلندي" قد ميزه، إذ منحته حكمة السن حالة من التأمل انعكست على أفلامه.
"قتلة زهرة القمر" الذي يمتد لـ3 ساعات ونصف استحق الانتظار عامين، ليس للمتعة السينمائية الفائقة التي تميز أفلامه دائما، ولكن بسبب ذلك الخطاب العقلي الذي يدعو الضمير الأميركي لمراجعة نفسه، خاصة أن المسكوت عنه من جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الأميركي والغربي المهاجر ضد السكان الأصليين لا يمكن إنكارها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: السکان الأصلیین دی نیرو ومن ثم
إقرأ أيضاً:
نتنياهو يصر على إبادة غزة "ولو وقفت إسرائيل وحدها"
أصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على مواصلة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بقطاع غزة، وقال الأربعاء، إنه "إذا اضطررنا إلى الوقوف وحدنا فسنفعل".
جاء ذلك خلال كلمة بمراسم "إحياء ذكرى الهولوكوست" في متحف "ياد فاشيم" بالقدس، ألقاها نتنياهو المطلوب للعدالة الدولية لارتكابه جرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
و"الهولوكوست" مصطلح استُخدم لوصف حملات حكومة ألمانيا النازية وبعض حلفائها بغرض اضطهاد وتصفية اليهود وأقليات أخرى في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية (1939ـ 1945).
وقال نتنياهو: "تحدثتُ بشدة ضد جهات في المجتمع الدولي سعت إلى تقييدنا (لم يسمها). حذرونا من أنهم سيفرضون علينا حظرا على الأسلحة إذا دخلنا رفح (جنوبي غزة).. بل إنهم نفذوا هذا التهديد".
وادعى قائلا: "وقتها قلتُ لمحاورينا وحليفتنا الولايات المتحدة، لن تكون أيدينا مقيدة ولن يمنعنا أحد من الدفاع عن أنفسنا، وسندخل رفح لأن هذا شرط ضروري للنصر في الحرب".
وأردف: "إسرائيل ليست دولة تقبل الإملاءات، ولن تمنعنا أي دولة من تصفية الحسابات مع حماس، وإذا اضطررنا للوقوف وحدنا فسنفعل"، وفق ادعائه.
ويتمسك نتنياهو باستمرار حرب الإبادة على قطاع غزة بدعم أمريكي، والتي خلّفت منذ 7 أكتوبر 2023 أكثر من 168 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.
** نووي إيران
وزعم نتنياهو، أن إسرائيل إذا خسرت الصراع مع إيران "فستكون الدول الغربية هي التالية. سيحدث ذلك أسرع بكثير مما يظنون لكن إسرائيل لن تخسر، ولن تستسلم، ولن تخضع".
وادعى أن "النظام في إيران لا يهدد مستقبلنا فحسب، بل مصير المجتمع البشري، وهذا ما سيحدث إذا حصل على أسلحة نووية"، على حد قوله.
وتأتي تصريحات نتنياهو، في وقت تتواصل فيه مفاوضات غير مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران بشأن برنامج طهران النووي.
واستضافت مسقط أولى جولات محادثات إيران وواشنطن في 12 أبريل/نيسان الجاري، وصفها البيت الأبيض بأنها "إيجابية للغاية وبناءة"، بينما احتضنت العاصمة الإيطالية روما الجولة الثانية من مفاوضات البرنامج النووي في مقر إقامة السفير العماني.
** انقسامات إسرائيل
وخلال كلمته بمراسم "ذكرى الهولوكوست"، تطرق الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، للانقسامات الداخلية ببلاده، قائلا: "لن يغفر التاريخ لمن يتصرفون بعدم مسؤولية ويحاولون تفكيكنا من الداخل، ولمن يهدمون الأرض تحت دولتنا الرائعة، التي قامت من رماد المحرقة المروعة".
وتشهد إسرائيل انقسامات شديدة بين الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو والمعارضة وشريحة واسعة من الشارع الإسرائيلي على خلفية إجراءات حكومية مثيرة للجدل بما في ذلك إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي (شاباك) رونين بار.
وخاطب هرتسوغ، الأسرى الإسرائيليين بقطاع غزة قائلا: "هناك احتمال أن يسمعنا بعضهم، لن تجد أمتنا أي عزاء أو سلوى حتى تعودوا جميعاً إلى دياركم".
وتقدر تل أبيب وجود 59 أسيرا إسرائيليا بقطاع غزة، منهم 24 على قيد الحياة، بينما يقبع في سجونها أكثر من 9500 فلسطيني، يعانون تعذيبا وتجويعا وإهمالا طبيا، أودى بحياة العديد منهم، حسب تقارير حقوقية وإعلامية فلسطينية وإسرائيلية.
ومطلع مارس/ آذار 2025، انتهت المرحلة الأولى من اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل أسرى بين "حماس" وإسرائيل بدأ سريانه في 19 يناير/ كانون الثاني 2025، بوساطة مصرية قطرية ودعم أمريكي، والتزمت به الحركة الفلسطينية.
لكن نتنياهو تنصل من بدء مرحلته الثانية، واستأنف الإبادة الجماعية بالقطاع في 18 مارس الماضي، استجابة للجناح الأشد تطرفا في حكومته اليمينية، وفق إعلام عبري.