نشرت  صحيفة الغارديان مقالا للكاتبة البوسنية، لانا باستاشيتش استعرضت فيه، ذكرياتها كانت طفلة ورأت ماذا يحصل بعد التطهير العرقي، ولهذا فهي تتحدث علنا عن صمت وطنها الجديد إزاء موت الفلسطينيين. 

وفيما يلي ترجمة لمقالها:

عندما انتقلت إلى برلين، اكتسبت عادة التوقف عند النصب التذكارية "لحجارة العثرة" وقراءة أسماء اليهود الذين تم أخذهم من منازلهم ونقلهم إلى معسكرات الاعتقال.

هناك مبنى في طريقي إلى مترو الأنفاق تم نقل 16 شخصا منه. لكن حجر لوسي هو الذي صدمني بالذات. لها حجر تذكاري واحد أمام مبنى كبير. كل ما نعرفه عن لوسي هو أنها أُخذت بعيدا عن عمر يناهز 61 عاما. وقد جعلني ذلك أفكر في جميع الأشخاص الآخرين الذين عاشوا في المبنى وربما شاهدوا ذلك يحدث. ماذا كانوا يفعلون؟ هل قاموا فقط بغض الطرف؟

تنحدر عائلتي من كرواتيا، وباعتبارنا غير كرواتيين فقد غادرنا البلاد خلال فترة الجنون القومي في أوائل التسعينيات، والتي وصفتها الراحلة دوبرافكا أوغرسيتش في عملها الأدبي بأنها الكفاح من أجل "الهواء الكرواتي النقي". 



فبعد تعرضنا للاضطهاد في كرواتيا منذ أوائل الأربعينيات ـ تمكن جدي من مغادرة معسكر الاعتقال في ياسينوفاك حيا عندما كان في الحادية عشرة من عمره ـ وجدنا أنفسنا في شمال البوسنة والهرسك. هناك كانت الضحية مختلفة. 

جيراننا البوشناق، الذين كان الاختلاف الوحيد عنا هو أسمائهم الإسلامية، تعرضوا الآن للتشهير العلني من قبل كل وسائل الإعلام الصربية تقريبا. 

الأشخاص الذين عاشوا بجانبنا، وأرسلوا أطفالهم إلى نفس المدارس، ويتحدثون نفس اللغة، تم تصويرهم الآن على أنهم غير بشر، كجهاديين يقتلوننا أثناء نومنا، كحيوانات تخلع أسناننا وتغتصب نسائنا. . كل هذه القصص سمعتها عندما كنت في السادسة من عمري. كنت أعرف كلمة مجاهدين قبل أن أتعلم الحروف الأبجدية.

تم تدمير المسجد المحلي الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر في بانيا لوكا. 

غادر بعض أصدقائي في المدرسة بين عشية وضحاها ولم يُقل عنهم أي شيء في الفصل في اليوم التالي، وقام البعض بتغيير أسمائهم إلى أسماء مسيحية، لكنهم تعرضوا للتنمر بشكل يومي على أي حال. 

عندما بلغت الثامنة من عمري، تعلمت كيف أفرق بيننا وبينهم. لم تعد المعلمة معلمة، بل كانت صربية. لم يعد زميل الدراسة زميلا في الفصل بل كان مسلما. والطبيب لم يعد طبيبا، لقد أصبح الآن كرواتيا.

لماذا أكتب عن البوسنة بعد 28 عاما من اتفاق دايتون للسلام؟ والحقيقة هي أنه لا يوجد شيء اسمه السلام بعد التطهير العرقي. 

ولا تزال البوسنة منقسمة بشدة، لا يستطيع الناس الاتفاق على ما يطلقون عليه اللغة التي يتحدثون بها، يتم تبجيل مجرمي الحرب من جميع الأطراف. 

هجرة الأدمغة في البوسنة تتزايد كل عام، فقد أصبح الأطفال المصابون بصدمات نفسية بالغين مصابين بصدمات نفسية، وغير قادرين على العثور على عمل أو الحصول على رعاية صحية لائقة.

كتبت رواية مستوحاة من ذكرياتي في بانيا لوكا، وتُرجمت إلى لغات مختلفة، بما في ذلك الألمانية، مما أدى إلى حصولي على منحة ثقافية ألمانية. 

لقد أمضيت وقتي خلال العامين الماضيين في السفر حول ألمانيا للحديث عن كتابي وعن الشلل الذي لا تزال البوسنة تعاني منه. 



في كل مكان، التقيت بمستمعين متعاطفين، أشخاصا متحمسين لقراءة القصص، لنشر الكلمة، للمساعدة. 

لقد كنت الفتاة البوسنية المختارة [للقيام بهذا العمل]. جلس الأوروبيون البيض المرتاحون في المناسبات الأدبية وهزوا رؤوسهم غير مصدقين عندما كنت أخبرهم عن التطهير العرقي. 

ولن يتكرر ذلك أبدا، كما يقولون، في كل مرة تظهر فيها بعض الذكرى البوسنية أو غيرها في موجز الأخبار.

لكن عبارة "لن يحدث مرة أخرى أبدا" هي عبارة ضعيفة، إن العالم ينسى، كما نسي البوسنة، قد تهالكت لن يحدث أبدا وهُجرت، أما مرة أخرى فتعود مرة بعد مرة بأعداد أكبر وقصص أكثر قتامة.

إن قطاع غزة، الذي يعاني أصلا من الفقر بسبب الاحتلال والحصار غير القانوني المستمر منذ 16 عاما، والذي يتكون سكانه من 47 بالمئة من الأطفال، يتعرض لقصف سجادي من قبل أقوى جيش في الشرق الأوسط بمساعدة أقوى الحلفاء في العالم. 

ويلقى أكثر من 4600 فلسطيني حتفهم، ويواجه كثيرون آخرون الموت في غياب وقف إطلاق النار، لأنهم لا يستطيعون الهروب من القصف أو لا يستطيعون الوصول إلى الماء أو الغذاء أو الكهرباء. 

ويزعم الجيش الإسرائيلي أن هجومه، الذي يجري تصعيده الآن، هو "حرب على الإرهاب"؛ ويقول خبراء الأمم المتحدة إن هذا يصل إلى حد العقاب الجماعي.

هذه كلها حقائق. ومع ذلك، فإن مجرد ذكر كلمة "فلسطين" في ألمانيا قد يؤدي إلى اتهامك بمعاداة السامية. 

ولم يقتصر الأمر على إيقاف أو تفريق المسيرات المؤيدة للفلسطينيين من قبل الشرطة، بل أرسلت السيناتورة المسؤولة الألمانية عن التعليم كاتارينا غونتر- فونش أيضا رسالة بالبريد الإلكتروني إلى المدارس تقول فيها: "أي سلوك احتجاجي أو تعبير عن رأي يمكن فهمه على أنه موافقة على الهجمات ضد إسرائيل أو دعم المنظمات الإرهابية التي تنفذها، مثل حماس أو حزب الله، يمثل تهديدا للسلام المدرسي في الوضع الحالي و يُحظر". 

بالإضافة إلى حظر الرموز المرتبطة بحماس، أصبحت المدارس الآن حرة في حظر "الرموز والإيماءات وتعبيرات الرأي التي لا تصل بعد إلى حد المسؤولية الجنائية"، والتي تشمل الكوفية والعلم الفلسطيني وملصقات "فلسطين حرة".

إن خنق المعارضة لقتل المدنيين في غزة يمتد حتى إلى الشعب اليهودي، حيث اقتربت الشرطة الألمانية من امرأة يهودية إسرائيلية رفعت لافتة في أحد ساحات برلين تدعو إلى إنهاء العنف، واقتادتها في سيارة شرطة، وتم إطلاق سراحها فيما بعد، فأي شخص يظهر تضامنا مع الفلسطينيين يُشتبه تلقائيا بأنه متعاطف ضمنيا مع حماس.

وألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل توزيع جوائز رواية "تفصيل ثانوي" للروائية الفلسطينية عدنية شبلي، كما ألغى مسرح غوركي في برلين عرض مسرحية "الموقف" للمخرجة النمساوية الإسرائيلية يائيل رونين، والذي كان من المقرر عرضه في 23 تشرين الأول/ أكتوبر. 

وقال محرر مختارات تضم أعمال 34 شاعرا عربيا منفيا إن الحدث قد تم إلغاؤه من قبل بيت الشعر في برلين.

وقد نصحني بعض الأشخاص ذوي النوايا الحسنة بأن التعبير عن هذا الرأي قد يؤدي إلى حرماني من حضور الفعاليات والمهرجانات الأدبية، وأن مسيرتي المهنية في ألمانيا - مصدر رزقي طوال العامين الماضيين - ربما تنتهي.

ومع ذلك، في حين يتم إلغاء الفنانين والكتاب بسبب معاداتهم المزعومة للسامية، فإن النازية الجديدة الحقيقية آخذة في الارتفاع، مع فوز حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف، في الانتخابات المحلية، وطرح السياسيون من التيار السائد فكرة عقد صفقات معهم. 

وواجه معرض الكتاب نفسه، الذي الغى حفل تسليم جائزة لشبلي، انتقادات في السابق لإدراج دار نشر يمينية متشددة، أنتايوس، في برنامجه، بحضور أعضاء حزب البديل من أجل ألمانيا.



إن الدعم الرسمي الذي لا يتزعزع من ألمانيا لتصرفات الحكومة الإسرائيلية لا يترك مجالا كبيرا للإنسانية، كما أنه يأتي بنتائج عكسية، إذ يعمل على نشر الخوف، وكراهية الإسلام، ومعاداة السامية.

فبعد أن نشأوا في ظل الذنب الجماعي لجرائم الحرب النازية، يبدو أن العديد من المثقفين الألمان يرحبون تقريبا بالفرصة للتكفير عن خطايا الأجداد، والكفارة، بطبيعة الحال، ستقع على عاتق الأطفال الفلسطينيين.

وينبغي أن يندرج تحت فئة "توضيح ما هو واضح"، ولكن لا يزال يتعين التأكيد عليه: تاريخيا، لم تؤد كراهية الإسلام إلا إلى المزيد من الإرهاب، وبما أنني نشأت في البوسنة، أستطيع أن أقول لكم بكل يقين أن الحلقة المفرغة لا تنتهي أبدا. 

إن نفاق المنقذ الأبيض الذي نشهده في ألمانيا اليوم سوف يفيد الألمان البيض فقط على المدى الطويل، فإما أن تكون ضد الفاشية بكل أشكالها، أو أنك منافق، فعليك أن تدين منظمة إرهابية وكذلك الإرهاب الذي ترتكبه الحكومة.

إنني أشعر بالفزع من تصرفات حماس وأشعر مع ضحاياهم، لكن ليس لدي رأي مسموع فيما يفعلونه، ولا تذهب أي من ضرائبي لتمويل حماس، ومع ذلك، فإن بعض ضرائبي تمول قصف غزة، وفي الفترة ما بين 2018 و2022، استوردت إسرائيل أسلحة بقيمة 2.7 مليار دولار من الولايات المتحدة وألمانيا.

وبما أنني أعيش في ألمانيا، فإنني أرى أن من مسؤوليتي الإنسانية أن أنتقدها بسبب انحيازها ونفاقها واستسلامها للتطهير العرقي في غزة.

عندما أمشي بالقرب من حجر لوسي كل يوم، أتذكر تلك المسؤولية، أتذكر ما يمكن أن يفعله الصمت وإلى متى يمكن أن يطارد مكانا وشعبا، لقد جئت من مكان صامت غارق في الدم، لم أعتقد قط أنني سأشعر بنفس الصمت في ألمانيا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة الفلسطينيين غزة الاحتلال المانيا فلسطين غزة الاحتلال حظر التظاهرات صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی ألمانیا من قبل

إقرأ أيضاً:

إمام أوغلو يثير الجدل بتصريحات حول ترشحه للرئاسة التركية في ألمانيا

أثار رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، الجدل بتصريحات حول ترشحه للرئاسة التركية في ألمانيا.

 

وقال إمام أوغلو في تصريحات حول ترشحه للرئاسة خلال فعالية في برلين:”نحن نحلم بأن نقول ذلك في المستقبل، تركيا لك”.

 

واستخدم إمام أوغلو خلال إجابته على الأسئلة المتعلقة بإسطنبول عبارات جعلت الناس يقولون “سيكون مرشحًا للرئاسة بالتأكيد”.

 

مقالات مشابهة

  • بعد هزيمة الزمالك.. جوميز: نسعى لتصحيح أخطاء اليوم ولا مجال للأعذار
  • جوميز يعد الجماهير بتصحيح أخطاء الزمالك أمام المصري
  • 12 لاعبًا من عائلة واحدة.. الفريق العائلي الذي حيّر الخصوم
  • أصغر حافظة للقرآن الكريم: كيف تحدت حبيبة فضل طفلة المنيا المرض وعدم معرفتها القراءة والكتابة
  • روسيا تطلق صاروخاً عابراً للقارات وتُعدل عقيدتها العسكرية.. ما الذي نعرفه عن ترسانتها النووية؟
  • مقارنة ردة فعل بايدن على مذكرتي اعتقال بوتين ونتنياهو تبرزه كاتبة فلسطينية لـCNN
  • سفير مصر في سراييفو يلتقي وزير خارجية البوسنة والهرسك
  • مات في الزنزانة.. أول رئيس دولة لاحقته المحكمة الجنائية الدولية (فيديو)
  • إمام أوغلو يثير الجدل بتصريحات حول ترشحه للرئاسة التركية في ألمانيا
  • كاتبة صحفية: موقف المؤسسات الدينية من الطلاق الشفهي مرفوض