يَعْرِفُ الاقتصاد السياسي، بحسب ما جاء في كتاب ويل كنتون المعنون "تعريف الاقتصاد السياسي وتاريخه وتطبيقاته"، بأنّه الاقتصاد الذي ينظر إلى أي نظرية اقتصادية على أنّها منهجية يتمّ تبنيها كأداة لتوجيه وتوزيع كمية محددة من الموارد المتاحة بطريقة تضمن أن تعود النتائج بالنفع الأكبر على جميع الأفراد في المجتمع.
وتاريخيا يُعد آدم سميث وديفيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل هم رواد علم الاقتصاد الحديث، ويعتبرون أنفسهم من "الاقتصاديين السياسيين"، حيث ينظر إلى كتاب الأخير "مبادئ الاقتصاد السياسي" الصادر في عام 1848م على أنه أهم وثيقة للاقتصاد السياسي في القرن الماضي؛ حيث أن ذلك الكتاب أكد على صعوبة الفصل بين العوامل الاقتصادية والعوامل السياسية. لقد تزايدت أهمية الاقتصاد السياسي في غضون القرن الماضي في مجالي العلوم الاقتصادية والعلوم السياسية معاً لعدة أسباب منها أن الاقتصاد السياسي يعمل على تقييم تأثير الاقتصاد على السياسة والسياسيين في تحسين فرصة نفوذهم أو إضعافها. ويحلل الاقتصاد السياسي أيضا القوى السياسية المؤثرة على الاقتصاد، حيث يقوم الاقتصاد السياسي باستخدام أدوات الاقتصاد لدراسة السياسة، والتوصل إلى فهم نظري أدق للعوامل والسمات الأساسية المؤثرة على السياسات والاليات التي تحكم المجتمع والعوامل التي تؤثر في تغييره. ويمكن تمثيل العلاقة بين السياسيين والناخبين كالعلاقة بين المنتجين والمستهلكين، لذا فإن تطوير العلاقة بينهما إلى علاقة تفاهم تحقق مصالح الطرفين وهدف أساسي لواضعي السياسات الاقتصادية.
وتختلف الحكومات في شأن "السياسة الاقتصاديّة " في إجراءاتها الوطنية الخاصة بتنظيم مالية الدولة، حيث تتبع بعض الحكومات السيطرة الكاملة على الاقتصاد لتحقيق أهدافها الاجتماعية أو السياسية، ومنع الركود الاقتصادي عند حدوث أي اختلالات طارئة، حيث ينبغي عليها أن تُخصص نسبة عالية من هذه الأموال على الإنفاق العام مثل الخدمات والمدفوعات الأخرى. بينما تتبع دول أخرى النظام الرأسمالي الذي يسمح للأفراد بتحقيق الأرباح والرفاهية الاقتصادية دون تدخل مباشر منها. غير أنه مع الانفتاح العالمي للاقتصاد باتت معظم الحكومات تفقد سيطرتها على مسارات التفاعلات الاقتصادية، خاصة مع ظهور التجارة البينية والاعتمادات المتبادلة والشركات متعددة الجنسيات والمجموعات الوطنية وتداخلها مع المؤسسات العالمية. وترتب على هذا التداخل العالمي ظهور المؤسسات الدولية التي تعمل على تنظيم العولمة والاقتصاد السياسي، مثل العلاقات التجارية عبر الحدود، وتحركات رؤوس الأموال، في إطار التعاون الإقليمي والتنمية الاقتصادية، وذلك من خلال الاتفاقيات والقواعد الدولية المحكمة والمصادق عليها. وعلى المستوى الفردي، تقوم كل دولة بمفردها بصياغة سياستها المالية من خلال إستراتيجيات اقتصادية كلية تكون طويلة أو قصيرة المدى. وتعتمد كل دولة في تحقيق أهداف مجتمعها على تلك السياسات المالية؛ مع المتابعة والقياس السنوي لأهدافها التي لا تخرج عن الإطار العام لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتحقيق تخصيص الموارد الاقتصادية، وإعادة توزيع الدخل الوطني لتحقيق التنمية الاقتصادية.
وتشكل العلاقة بين الحوكمة والاقتصاد السياسي نقطة أساسية عند تطبيق أهداف التنمية المستدامة، حيث تقوم مبادئ الحوكمة بتقييد خيارات السياسات الاقتصادية؛ وعندما يتم تجاهل الحوكمة أو لا يتم تطبيقها كما ينبغي، فإنها تنبئ بفشل تلك السياسات. لذلك يجب أن يكون تخطيط السياسة الاقتصادية مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بتطبيق الحكم الرشيد، وأن يتم تكييف هذه السياسات مع الأولويات الوطنية، بالإضافة إلى قياس الوضع الاقتصادي المؤسسي والسياسي الراهن، حيث تتسم كثير من أقطار العالم النامي باختلاف تنوع المصالح عند أصحاب المصلحة (مثل الحكومة والمواطنين والمجتمع المدني والصحافة والقطاع العدلي وغيرهم)، واختلال توازن القوى في عمليات صنع القرار والجمود المؤسسي والبيروقراطية التي تقيد قدرات العمل خاصة في الخدمة المدنية وتقديم الخدمات الاساسية. لذلك تلجأ بعض الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية كبيرة إلى نشر وترسيخ مفاهيم المؤسسية اللازمة لمعالجة الآثار السلبية الناتجة عن تضارب السياسات المتقلبة، والعمل على المفاضلة بينها. وغالباً ما تلجأ تلك الدول إلى خيار السياسات البديلة وتخصيص الموارد واتخاذ القرارات الأخرى المتعلقة بالاحتياجات الأساسية للسكان مثل الأغذية والزراعة. ويُعد خيار المفاضلة بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والاستخدام المستدام للموارد الطبيعية هو الخيار الأنسب، وإن أستغرق تطبيقه قدراً من الوقت. ويمكن للدول النامية مثل السودان انتهاج سياسات مشابهة، خاصة وهي دولة يقوم اقتصادها على الزراعة. وإن أفلح السودان في التطبيق الجيد والفعال لآليات الحوكمة المبتكرة عبر الشراكة والتنسيق بين المؤسسات الزراعية العامة والخاصة لتغدو شراكة عوضاً عن منافسة، فسوف يفضي ذلك إلى تطوير القطاع الزراعي والصناعات الغذائية في الدولة.
ويُعد تطبيق نظم الحكم الرشيد (أي الحوكمة) أحد التحديات الكبيرة للتنمية في السودان، إذ أن التحول نحو تطبيق الحوكمة هو عملية معقدة خاصة في المجتمعات التي تعج بالولاءات القبلية أو العرقية وغيرها من المحددات المجتمعية المضرة. ومعلوم أن تطبيق الحوكمة يرتبط بالقوانين السائدة في الدولة المعينة، غير أن ممارستها فعليا في المجتمع تتطلب مراحل عديدة من التعلم الجماعي والتكرار للنظم والإجراءات في تلك المجتمعات، حتى تؤدي إلى حلول واقعية ومستدامة على المدى الطويل. كذلك يعتبر إشراك أصحاب المصلحة المعنيين (الذين أشرنا إليهم آنفاً)، وتيسير الشراكات بينهم من أهم الركائز الأساسية في عملية الحوكمة. لذلك ينبغي ألا يتوقع السودانيون اكتمال أنظمة الحكم الرشيد بصورة شاملة لمجرد أن أنظمة الحكم قد تغيرت، أو أن هنالك تغيرات أخرى في السياسات الاقتصادية قد أقرت. كذلك معلوم أنه في كل برنامج اصلاح اقتصادي شامل ثمة رابحون وخاسرون. فالعديد من الجهات المعنية (مثل الشركات العامة والخاصة) لديها مصالح أكبر في بقاء الأوضاع الراهنة التي تفتقر إلى مبادئ الحوكمة في بعض الجوانب، ويسود فيها ترجيح المصالح الخاصة على المصالح العامة للدولة. ولكن يمكن أن يخفف من حدة المقاومة التي ستواجه عملية تطبيق الإصلاح المؤسسي بحسن إدارة مرحلة "الحكم الرشيد" عن طريق أوضاع قانونية معتبرة ومستوى شفافية عالٍ.
سينشغل صانعو السياسات الاقتصادية في غالب دول العالم في غضون السنوات المقبلة بالهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر للأمم المتحدة (وهو القضاء على الجوع)، حيث تتلاحق الكوارث الطبيعية المختلفة في عدة مناطق من العالم نتيجةً للتغيرات المناخية، واندلاع الحروب والنزاعات الدولية والاقليمية. ومعلوم إن تأسيس الأطر المالية والاقتصادية اللازمة للقضاء على الجوع، وضمان الأمن الغذائي والتغذية للجميع هي من المسؤوليات الأساسية للدولة. ووفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الصادر في أغسطس2023م، فإن 20.3 مليون شخص في السودان سيواجهون مجاعة حادة، وهو تقريباً ضعف أرقام العام الماضي. وتشير توقعات الفاو إلى أن 42 % من السكان يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، التي تفاقمت بسبب الاضطرابات في أسواق البلاد والارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية، مما يعيق الوصول إلى السلع والخدمات الأساسية. ووفقاً لأحدث تقرير من الأمم المتحدة بشأن التصنيف المرحلي المتكامل لانعدام الأمن الغذائي، فإن الوضع في السودان بات أكثر حرجاً، حيث يواجه 14 مليون شخص "أزمة حادة''، وأن أكثر من ستة ملايين شخص- حوالي %13 من السكان- على بعد خطوة واحدة الآن من المجاعة. (https://news.un.org/ar/story/2023/08/1122532)
لذلك تتطلب المرحلة الحالية بالسودان تعديل السياسات الاقتصادية، خاصةً فيما يتعلق بأدوات سياسة الاقتصاد الكلي، للتنسيق وأجراء التعديلات اللازمة لتشمل الضرائب والإنفاق العام والإعانة والائتمان وغيرها، كذلك الطريقة التي تتم بها إعادة المشاركة بين أصحاب المصلحة، حتى يتم التكيف مع الظروف الحالية، ومعرفة الاحتياجات المطلوبة، والمخاطر المتوقعة والفرص المتغيرة لوضع الامن الغذائي في البلاد. كما ينبغي العمل على مواجهة الصدمات الاقتصادية عبر التنسيق بين القطاعات المختلفة مثل وزرات المالية والزراعة والري والكهرباء وكافة القطاعات المتخصصة داخل الحكومة نفسها. ويشمل ذلك أيضاً سد الفجوة بين القطاعين العام والخاص. وجميع ما ذكر يُعد من الوسائل التي لا يمكن الاستغناء عنها لتسهيل فاعلية السياسات الهادفة لتحقيق التنمية في القطاع الزراعي.
وأخيراً، يعد الترابط السببي بين الاقتصاد والحالة المعيشية للسكان هو المحدد لمصير الاستقرار السياسي للدول، ولتطلعات الشعوب على اختلاف وعيها وثقافتها؛ حيث أن الأفكار السياسية والأيدولوجية لن تتحقق ولن تجد القبول عند الشعوب بمجرد الحديث فقط عن الحريات أو المبادئ إن لم تكن مرتبطة بشكل أو آخر بالنظريات الاقتصادية الواعدة بالرفاة، أو على الأقل بالكفاية والعدل. وينبغي عند التحدث عن مجتمع الكفاية والعدل لكافة المواطنين على حد سواء إدراك أن هناك نسبية مقبولة في درجات الكفاية والرفاهية، حيث أن العدالة المطلوبة بين كافة المواطنين في المناطق الحضرية والريفية تتمثل في توفير أساسيات الحياة من الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والمرافق الصحية والتعليم. وتختلف الفروقات بحسب درجات الكفاية والرفاهية، وبحسب طبيعة كل منطقة، والمهن التي تُمارس فيها، ومدى اختلاف طبيعة المدن الكبيرة عن المدن والقرى الأصغر بحسبانها محددةً للوقائع الطبيعية والمجتمعية. ولذلك يؤكد النهج الأفضل للتنمية على الأهمية النسبية للعوامل السياسية المؤثرة في تكوين الإجراءات والأدوات التنموية، بما في ذلك الإصلاحات الفنية المؤسسية وإصلاحات السياسات المختلفة، وما يتطلبه ذلك من تحليل للاقتصاد السياسي بأنظمة حاكمة تضمن توزيع السلطة والموارد في الدولة، مع المرونة الرشيدة في التكيف مع المتغيرات المختلفة المتعلقة بالحوكمة في جميع مجالات التنمية.
nazikelhashmi@hotmail.com
//////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السیاسات الاقتصادیة الاقتصاد السیاسی
إقرأ أيضاً:
الصحة: فريق الحوكمة يتفقد مستشفى العريش العام وبئر العبد ويوجه بإجراءات فورية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
استكملت وزارة الصحة والسكان، تنفيذ المرحلة الرابعة من حملة المرور الميداني على المنشآت الطبية في جميع المحافظات، وذلك تنفيذاً لتوجيهات الدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان، سعيا نحو التواصل المباشر مع المواطنين، ورفع كفاءة المنشآت الطبية وتقديم خدمة طبية ذات جودة.
وقال الدكتور حسام عبد الغفار المتحدث الرسمي لوزارة الصحة والسكان، إن المرحلة الرابعة من حملة المرور الميداني، استهدفت محافظة شمال سيناء، وتضمنت مرور فريق الحوكمة والمراجعة الداخلية، على مستشفى العريش العام، ومستشفى بئر العبد التخصصي، ومعبر رفح، لمتابعة سير العمل ورصد أي قصور في مستوى الخدمة الطبية المقدمة للمواطنين، واتخاذ الإجراءات التصحيحية على رأس العمل.
وأشار المتحدث الرسمي، إلى أن الفريق بدأ جولته بالمرور على مستشفى العريش العام، حيث تفقد جميع أقسام المستشفى، وتلاحظ وجود عجز في بعض التخصصات الطبية "قلب وأوعية دموية، قلب أطفال، أمراض مناعية، مسالك، سمعيات، أشعة تشخيصية" وتم التواصل مع المديرية لزيادة عدد القوى البشرية في هذه التخصصات، لضمان انتظام العمل، كما اتخذ الفريق إجراءات فورية أثناء المرور لتفعيل منظومة ميكنة الغسيل الكلوي.
وأضاف «عبدالغفار» أنه تبين وجود عدد من الأجهزة المعطلة، ومنها جهاز الماموجرام، وكذلك أنظمة الرفع الميكانيكية لعدد من الأسرة، وتم التوجيه باتخاذ ما يلزم من إجراءات لإصلاح الأجهزة المعطلة، كما أكد الفريق على إجراء الصيانة الدورية للأجهزة في مواعيدها المقررة، مضيفًا أن الفريق تابع بدء تشغيل جهاز أشعة مقطعية جديد بشكل تجريبي، كما تم التنسيق مع القطاعات المعنية لإمداد المستشفى باحتياجاتها من التجهيزات المختلفة.
وأوضح «عبدالغفار» أن الفريق قام بمراجعة توافر الأدوية والمستلزمات الطبية، وتم التنسيق مع المديرية لإمداد المستشفى بالأصناف غير المتوفرة، كما تلاحظ عدم اتباع معايير مكافحة العدوى داخل بعض الأقسام، وتم التوجيه بتدريب الفرق الطبية على معايير وأساسيات مكافحة العدوى داخل أقسام المستشفى المختلفة ومتابعتها.
واستطرد «عبدالغفار» أن الفريق استكمل جولته بالمرور على مستشفى بئر العبد التخصصي، وأثناء المرور قام الفريق بمراجعة مستوى الخدمات الطبية المقدمة للمرضى، كما تم التنسيق بين قطاع الطب العلاجي بالوزارة و مديرية الشئون الصحية بشمال سيناء لزيادة عدد الأطباء في تخصصات «أشعة تشخيصية، أطفال حديثي الولادة، صدر، رعاية أطفال»
واستكمل «عبدالغفار» أن الفريق قام بمراجعة توافر الأدوية والمستلزمات الطبية، وتم التنسيق مع المديرية لإمداد المستشفى بالأصناف غير الكافية وغير المتوفرة، كما تم التنسيق بين قطاعات الوزارة المختلفة ومديرية الشئون الصحية بشمال سيناء لإمداد المستشفى باحتياجاته من التجهيزات الضرورية لمواجهة أي أزمة طارئة وبخاصة تجهيزات قسم المعمل وتجهيزات مناظير جراحة المسالك وقسم الرمد.
ولفت «عبدالغفار» إلى أن الفريق اختتم جولته بالمرور على معبر رفح للتأكد من توافر الاحتياجات الطبية واللوجستية لفرق الحجر الصحي والرعاية العاجلة والإسعاف بالمعبر، وتم التأكد من توافر جميع الأدوية والتطعيمات والمستلزمات، كما تم التأكد من حسن سير عملية تنسيق تحويل المرضى إلى المستشفيات المختلفة داخل أنحاء الجمهورية.
وذكر «عبدالغفار» أن المرور تم بالتعاون مع القطاعات المعنية في الوزارة، وبمشاركة القطاع العلاجي، وقطاع الرعاية الأساسية، وإدارة الصيدلة، وتنظيم الأسرة، ومكافحة العدوى، والمشروعات، لاتخاذ إجراءات فورية لتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين.
IMG-20250308-WA0019 IMG-20250308-WA0018 IMG-20250308-WA0017 IMG-20250308-WA0016 IMG-20250308-WA0015 IMG-20250308-WA0014 IMG-20250308-WA0013 IMG-20250308-WA0012 IMG-20250308-WA0011 IMG-20250308-WA0010 IMG-20250308-WA0009 IMG-20250308-WA0008 IMG-20250308-WA0007 IMG-20250308-WA0006