الروائي الأردني جلال برجس يكتب: مشهدان من غزة
تاريخ النشر: 25th, October 2023 GMT
أثير- الروائي الأردني جلال برجس
لقد تجاوز ما حدث، وما يحدث بضراوة هذه الأيام في غزة قدرة المعاجم اللغوية على إيجاد مفردات تصف بشاعته، وكأن الإنسان العربي لا شيء، على حد توصيف الشاعر والروائي الأردني الراحل تيسير سبول حينما قال في روايته (أنت منذ اليوم) : ” وخيّل إليَّ أن المسألة كلّها سؤالٌ واحد: شعبٌ نحن أم حشيّة قشّ يتدرّب عليها هواة الملاكمة، منذ هولاكو حتى هذا الجنرال الأخير”.
راح المشهد الكلي في غزة إلى أقصى درجات بشاعته التي تنذر بالكارثة. وفي خضم تلك المشاهد، تضج مشاهد بعينها تشير إلى أن البسيطة على أعتاب مرحلة جديدة من التردي الكبير، ومن السقوط في حفرة العتمة المطبقة؛ تردي ينذر بجاهلية جديدة، تصاغ على نحو متقن لا نعرف إلى أين تتجه.
أطفال غزّة ينظفون باحة المعمداني
لن ينس التاريخ أبدًا أن الأطفال الغزِّيون أخذوا في صباح الرابع عشر من أكتوبر 2023م ينظفون باحة مشفى (المعمداني) مما حلَّ به من قمامة طارئة؛ كانوا يفعلون ذلك ومسامعهم تتلقف صدى الضربات الصاروخية، وأنين الجرحى، وأثر الحزن في وجوه الناس، وابتهالات الذين فروا من ويلات الحرب، يحتمون بالمشفى، وبما تبقى لديهم من أمل بأن المدارس، والمشافي، والأطفال، والعجائز، والأشجار، والطيور، والقطط، ودمى الصغار، خارج أهداف البنادق، وخارج شاشات الطائرات الحربية، التي حينما يصبح الهدف في عقر الدائرة الإلكترونية، يتهادى إلى مسمع الطيار، أو منفذ الرماية، صوتُ آمر بالضغط على الزناد، ضغطة تنهي حياة كثير من البشر الذي يحلمون بالحياة، ولم يتوقفوا عن الغناء لأجلها منذ اللجوء الأول، ومنذ أول شهيد سال دمه على تراب بلاد يعرف المتوسطُ حزنها؛ فلا تتوقف أمواجه عن الصراخ بوجه من اغتالوا الحقيقة، وهي تمشي على قدمين واثقتين، في وضح النهار.
رأيت تسجيلًا سُئل فيه طفل فلسطيني من غزة: ما الذي ترغب أن تكون عليه حينما تكبر؟ قال ووجهه يعلن عن ابتسامة يختلط فيها الحزن بالشكيمة: نحن لا نكبر، نحن نستشهد في هذا العمر تقريبًا.
يخاف أطفال غزة مثلهم مثل أي طفل في هذا العالم، مع هذا تعلموا كيف يقصون خوفهم أمام هول كل تلك الكوارث. لكن العالم لا يخاف، بل يُصفق للوحوش البشرية التي أوغلت كثيرًا في الدمار، كأنه في حلبة نزال مثل تلك التي كان يقوم بها الرومان حين كانوا يأتون بأحد المساجين المتمردين، يطلقون عليه أسدًا، ويقولون له: إن قتلته نجوت. لكن ما إن يفعل السجين ذلك أمام المتفرجين؛ حتى يُفتح باب آخر، تنطلق منه أسود أخرى، وتبقى تنهشه، إلى أن يتلاشى تمامًا.
أي روائي ذاك الذي يقوى على أن يصف بصدقه السردي تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الإيمان البشري بالحياة لدى أطفال رغم بشاعة كل ما يحدث إلا أنهم فعلوا ما على البشرية أن تفهم إحالته العميقة، في عالم عقيم بامتياز، عالم بات يسرع نحو التوحش بسرعة قصوى أكثر مما مضى، وفَتَح باب التأويل لفعل طفولي يستبق قمامة البارود الحارقة، وقسوة الإنسان التي يصمت العالم أمامها بمستوى غير مسبوق على الإطلاق، وكأن غولًا قادمًا من فضاءات معتمة أكثر مما نعرف، يلوي ألسنتهم، ويهددها بالبتر إن لم تقل ما دُبر في ليل دامس.
الأطفال أكثر حساسية لما يحدث حولهم، تمامًا مثل القماش الأبيض إن مسه حبر شربه بسهولة موجعة، يعرفون ما يدور حولهم، يخافون مما سيحدث، يحلمون بألا تمتد يد الحرب أكثر من استطالتها اللعينة، ومع ذلك كانوا ينظفون باحة (المعمداني)، كأن الروح المعدنية في القذائف خجلت من ذاتها، وأقلعت عن طاعة ذلك الإصبع الذي يأمرها بالانطلاق لتشيع الدمار، وتستبدل الحياة بالموت.
طفل غزّي يحتمي بالشجرة
لن ينسى التاريخ ذلك الطفل الذي وُجد متشبثًا بالشجرة احتماء من القصف الإسرائيلي على غزة. كان معفرًا بالتراب، من رأسه إلى أخمص قدميه، تتحلق يداه، وقدماه حول الشجرة، وهو يرتجف. أي تأويل هذا الذي يأخذنا إلى مقصده من الاحتماء بالشجرة غير الخوف، والسعي إلى ملاذ آمن. كيف ينام العالم الذي ينحدر نحو القاع، بسرعة مذهلة، وهو ينظر إلى طفل، ما وَجد مهربًا من عصف القنبلة، وحرارتها، وسوادها، وشظاياها، سوى صدر تلك الشجرة. هل نفسر تلك اللحظة الفارقة في تاريخ ذلك الطفل؟ أم نفسر صمود الأشجار أمام فظاعة ما يجري بلا أية هوادة.
مما لا شك فيه على الإطلاق أن العالم بكل قيمه، وقوانينه، ومعاهداته، ومبادئ شرعيته، وبكل ما فيه من حديث عن الحضارة، والعدالة، والسلم الاجتماعي، والتعايش؛ بات وهمًا خالصًا، وكأنه عبر إلى عصر جديد من الظلمة.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
صلاح جلال والتفكير بصوتٍ عالٍ
لم ألتقِ بالأستاذ صلاح جلال ولكن جمعتني به معرفة إسفيرية إمتدت من العام 2013 بعد هبة سبتمبر عامذاك حيث كنا ومع آخرين نعمل جاهدين علي رعاية أُسر شهداء هبة سبتمبر والسهر علي حفظ حقوقهم.
أطلق الصديق صلاح جلال دعوة للتفكير بصوتٍ عالٍ حول ما تمور به الساحة السياسية السودانية من تحديات جِسام لا يمكن أبداً مواجهتها بصفوف سياسية ومدنية وعسكرية منقسمة تنظيمياً ومَنصِّياً رغم إتفاقها في المباديء والأهداف الكلية ..
تساءل الصديق صلاح جلال وبجرأة في دعوته تلك وهو يتناول موضوع تشكيل حكومة (موازية):
هل ستجد القوي السياسية نفسها وفى المستقبل القريب فى موقف يضطرها لحمل السلاح من أجل الدفاع عن وحدة السودان ؟؟؟
أم أنها ستستسلم للإنقسام بإعتباره قدراً محتوماً ؟؟
مستشهداً بموقف القوي السياسية من إنفصال الجنوب عندما إعتبرت الإستفتاء مفتاح لشرعيته وتعبير عن رغبة أشقائنا في الجنوب رغم قناعتنا التامة كسياسيين بعدم شرعية النظام المُباد وتمثيله للدولة السودانية !!!
ذكرنا الصديق صلاح جلال في مداخلته بما كانت تَتَقوله القوي السياسية آنذاك بأن قبول تقرير المصير الوارد فى ميثاق أسمرا للقضايا المصيرية كان مرهوناً بإستعادة النظام الديموقراطى وتحقيق السلام ولكن جاءت نيفاشا وفى ظل نظام الإنقاذ غير الشرعي وغياب النظام الديموقراطى إنحنت كل القوي السياسية أمام العاصفة ورضيت بالإستفتاء رغم تناقضه مع وثائقها بل وإعتبرت إنفصال الجنوب قدراً محتوماً وافقت عليه بالصمت ولم ينس في ختام مداخلته أن يكرر الدعوة إلي التفكير بصوتٍ عالٍ قبل وصول القطار إلي المحطة الأخيرة ولعله يلوح بإنفصال جديد ..
في سياق هذه الدعوة للتفكير بصوتٍ عالٍ لابد من الإشارة إلي حقائق تاريخية يتغافل عنها بعض الساسة في هذا الزمان وهم يتأففون من من إمتشاق السلاح أو يترفعون عن التحالف مع طرف يحمل السلاح كوسيلة لنيل حقوق وتحقيق أهداف متفق عليها..
الحقيقة الأولي هي تجربة (الجبهة الوطنية ) في حمل السلاح لمواجهة النظام المايوي في الفترة من 1970 - 1976 ومن أهم مكوناتها الحزب الإتحادي الديموقراطي بقيادة المرحوم الشريف حسين الهندي وحزب الأمة بقيادة الإمام الهادي المهدي قبل إستشهاده والإمام الصادق المهدي وجماعة الإخوان المسلمون بقيادة محمد صالح عمر رحمهم الله، لقد حملت القوي السياسية المكونة لهذه الجبهة الوطنية السلاح وهم ساسة لا يشك أحد في وطنيتهم في مواجهة النظام المايوي لدواعي وحُجج لا يمكن مقارنتها البتة بدواعي وحُجج اليوم وفي مقدمتها مشروع تقسيم البلاد الذي تقوده سلطة المؤتمر الوطني الحاكِم وكتائبه.
الحقيقة الثانية وهي تجربة التجمع الوطني الديموقراطي المُؤسس في 1989 عقب إنقلاب البشير ورغم البدايات المدنية للتأسيس إلا أنه حمل البندقية ضد النظام علي مرحلتين أولاهما حملها نيابة عنهم الراحل جون قرنق قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان بعد إنضمامه للتجمع في العام 1990 رغم إتهامات ذات الآلة الإعلامية العاملة الآن لشخصه بكل الأوصاف غير اللائقة وظل يقاتل بالأصالة عن جيشه وحليفاً لهم لحين ومن بعد ذلك حملوا هم البندقية مجتمعين فتأسست جيوش التجمع الوطني الديموقراطي مثل جيش الفتح بقيادة السيد/محمد عثمان الميرغني وجيش الأمة بقيادة الإمام الصادق المهدي رحمه الله وقوات التحالف السوداني بقيادة عبدالعزيز خالد وكمال إسماعيل، وجيش الأسود الحرة بقيادة مبروك مبارك سليم وغيرها من الجيوش، هذا هو تاريخ قريب للقوي السياسية حملت فيه السلاح إنابةً وأصالة لتحقيق أهدافها السياسية وقد عايشنا هذا التاريخ القريب في بعض مراحله وكان هتافنا في الداخل (بكرة التجمع جايي وثورة حتي النصر)..
للإجابة علي تساؤل الصديق صلاح جلال حول إحتمالية حمل القوي السياسية للسلاح دفاعاً عن وحدة السودان ؟
أولاً يُلاحظ أن القوي السياسية والمدنية في فترة ما بعد حرب 15 أبريل قد تَلَبَّستها حالة (السِلمِية) التي إستنتها ثورة ديسمبر المجيدة متناسية أيامها الخوالي في حمل السلاح لمواجهة نظام الدكتاتور نميري وأخيراً نظام المؤتمر الوطني وكتائبه مرة نيابةً عنها حليفها الراحل جون قرنق ومرة أخري بجيوشها المتعددة التي توغلت حتي مدينة كسلا ، والغريب في مقابل لُبُوس حالة السِلمِية لقوانا السياسية والمدنية نجد أن خصمها الأوحد ممثلاً في المؤتمر الوطني وكتائبه لا يأبهان ليس من حمل وإستخدام كل أنواع الأسلحة لقتل المواطنين فقط بل يُسرِف في القتل بأبشع صُنوف القتل حتي ولو كان الثمن هو تقسيم البلاد بالقوة فالقَتَلة يعلمون جيداً أن مشروع تقسيمهم لا يمكن تمريره عبر أي إستفتاء طالما أن التركيبة السودانية لأعداد السودانيين حسب آخر تعداد سكاني ستظل معدلاتها كما هي وربما لعقود قادمة..
يلاحظ أيضاً أن القوي السياسية والمدنية في فترة ما بعد الحرب قد أصبحت تتعمد طرح رؤاها لإيقاف الحرب بصورة (هوائية) لعل وعسي أن يتلقفها أي طرف من أطرافها دون صياغتها وطرحها شكلاً ومضموناً بصورة يمكن أن يَتحرّج منها الطرف الرافض أو تضعه في مربع الإدانة وهذا الأمر يشهد عليه إعلان أديس أبابا 2 يناير 2024 المُوقع بين تنسيقية تَقدُم والدعم السريع إذ لم يعلم أي سوداني إلا بعد مرور ما يقارب العام بأن هذا الإعلان قد عُرِض علي الفريق البرهان ووافق علي التوقيع عليه ولكن بعد توقيع الدعم السريع، مما بدا وكأنه فَخ نَصبه الجيش للقوي السياسية والمدنية لتعزيز سردية حضانتها السياسية للدعم السريع والتي أصبحت فوبيا تثير هلع غالب السياسيين والمدنيين فتجدهم يبدأون ويختمون بياناتهم وأحاديثهم وتصريحاتهم بإدانة الدعم السريع ..
عليه لا أظن أن كل القوي السياسية والمدنية الفاعلة في الساحة السودانية الآن قادرة علي حمل السلاح من أجل الدفاع عن وحدة السودان طالما أنها أسيرة لسرديات آلة إعلام الكيزان ولكن البعض منها ربما يفتح الطريق بحمل السلاح أو بالتحالف مع من يحمله دفاعاً عن وحدة البلاد ..
في ختام مقاربة الصديق صلاح جلال تعرض لما جري في اليوم الأول من إنعقاد مؤتمر تحالف تأسيس بنيروبي عن الإحتمالية الثنائية للحكم في السودان مُستعرضاً تاريخ ثنائية حكم السودان في فترة الإستعمار وأخري بعد توقيع إتفاقية السلام الشامل في نيفاشا (دولة بنظامين) قبل الإستفتاء، وأقول للصدبق صلاح جلال أن هذه الثنائية التاريخية كانت حاضرة ونحن نسعي بين الطرفين الداعي لتشكيل الحكومة والرافض لها لإيجاد معادلة تحفظ للقوي السياسية والمدنية وحدتها وتماسكها كونفدرالياً دون اللجوء إلي فك الإرتباط ولكن إصرار البعض وقف حائلاً دونها ولا أري سبباً ط لذلك غير فوبيا الحضانة السياسية للدعم السريع التي زرعتها الآلة الإعلامية في أدمغة العامة..
من وجهة نظري أن أهم إختراق سياسي وإعلامي ناتج من الدعوة لتشكيل حكومة حتي الآن هو *كسر حاجز الخوف والرهبة الذي صنعته الآلة الإعلامية الكيزان* لذا أتفق مع الصديق صلاح جلال في وصف معظم النقد الذي إطلع عليه حول فكرة تشكيل حكومة موازية بإفتقاره للعمق وقراءة المستقبل، كما أتفق معه عندما ذهب إلي أبعد من ذلك بأن بيانات بعض القوي السياسية جاءت سطحية مكتفية بمظاهر الأشياء ولم تحفر فى العمق وكما قال الصدبق صلاح جلال: (نحن شطار فى نقد ما لا نريد) كذلك أشار إلي بديهة وهي أن أى قضية لها أكثر من حل يسندها أكثر من منطق، موضحاً أن الموافقة أو الرفض هى من أسهل الحلول ولكن هناك أيضاً حلول أخري ممكنة لم يتم التفكير فيها بسبب الكَسَل الفكرى وعدم تحمل رَهَق البحث مُبيناً أن السياسة فى السودان بعد عبدالخالق والصادق والترابى ونقد قد إفتقرت للفكر والثقافة والمعرفة الحقيقية بتعقيدات السودان خاصة تعقيداته المجتمعية الناتجة من المظالم التاريخية، وهي مظالم لا تستوجب الإعتذار وحسب إنما تتطلب البحث والتقصي عن حلول ناجعة لها، لقد حذرنا مما سيجره تفكيك إرتباط القوي المدنية والسياسية والعسكرية المعارضة لسلطة المؤتمر الوطني وكتائبه وسنري له صوراً طبق الأصل عاجلا ً في كل مُمسِكات الوطن من منظومات سياسية ومدنية ومهنية وحتي العسكرية..
لقد لَخص الصديق صلاح جلال في ختام مقالته بجرأة مناهج إدارتنا المعتلة لقضايا بلادنا وهي جرأة مطلوبة في حاضرنا المُضطرب هذا إذ ليس مرغوباً أن نكون كعبدالخالق، والصادق والترابي ونُقد ولكن ما هو مطلوب بالضرورة هو إِجالة البصر في تجاربنا القريبة وإعمال العقل في كيفية الإستفادة منها حتي يكون عام 2025 ليس كعام إنفصال الجنوب 2011 ..
محمد عصمت يحيي