علم اجتماع: المبتغى الجمالي قراءة التغير في السعودية
تاريخ النشر: 25th, October 2023 GMT
ماذا يحدث في السعودية؟
إن موضوع التغيير في السعودية منذ مدة وهو أحد المواضيع المفضّلة للحديث، والتساؤل والتفكير، بل وحتى الحلم، واتضح لي مؤخرًا أن كل من يصل الرياض يحاول أن يسمع من السعوديين عن نفس الموضوع.. إذن هناك تغيير حقيقي يجري في السعودية، لكن ما هي جذور هذا التغيير اليوم؟ والأهم من ذلك ضمنًا هل هو تغيير شكلي سطحي عابر أم حقيقي عميق؟
يروى عن الفيلسوف اليوناني انكسيماندر قوله «نحن نفهم العالم بدراسة التغيّر لا بدراسة الأشياء» للبحث عن إجابة لتلك الأسئلة عدت لكتاب «صنع في السعودية» لمؤلفه الناقد محمد العباس، الصادر عام ٢٠١٣م في بيروت عن دار جداول للنشر، وهو كتاب معنيّ بتوثيق وفهم تغيّر المجتمع الإنساني، يبحث منذ البداية في ظواهر التغيّر ويحاول فهمه واستيعابه عبر النتاج الثقافي المتفاعل للمجتمع الإنساني، وكما يقول:
«كل مجتمع يمكن فهمه واستيعاب طياته الخفية من خلال قراءة كتابه البرنامجي، أي التماس مع منتجاته الثقافية.
«قراءات تمارس فيها التجريب ذات متجادلة بحب مع مجتمع يحاول الاستواء، مجتمع لا يكتفي بقدر الاستنقاع في سجن الأنساق المغلقة»، ويفصح عن غايات تلك الذات المشار إليها:
«الذات تراود وعيها وأحاسيسها؛ لإيجاد نص جدلي بمثابة مكان يصلح للتفكير. هذا هو مبرر النبش في ظواهر تولدت ضمن دوائر اجتماعية تحتاج بدورها إلى ضبط وتعريف». ص٧
استخدام لفظة النبش يعني السبر العميق، وصولًا إلى لا وعي تلك الظواهر بتعبير الكتاب ص١٠، وهو يعني عدم الاكتفاء بما يظهر على السطح، ونجد النص يستخدم كلمات أكثر تحديدًا في وصف قراءته للمجتمع وظواهره، كقوله:التلصص على سر تشكلها من ثقب التأويل ص٧. وحين يشير النص لغاية تشكل تلك الظواهر الاجتماعية نجده يقول:
لاختبار قيم العيب التي تختلقها لتحتال عليها.
وفي توضيحه لهدف القراءة يقول: تفكيك مغزى المخاتلة -الواعية و اللاواعيةـ التي يتم بموجبها رفع سقف الممنوع للتلذذ باختراقه وتحديه.
نعلم من جاستون باشلار أن التشبيهات المجازية ليست زائفة بل لها دوافعها الواقعية، وهذه الكلمات تبدو لنا مفاتيحَ نصية، وكلها تدل على فعل وحركة بالتالي وعدم جمود، وهو ما يؤشر إلى قلق يبدو ناتجًا عن درجة أعلى من الحذر، فلا يكفي البحث بل الحاجة للنبش، ولا النظر وحده بل الحاجة للتلصص، أي النظر خفية، ولا يكفي التعامل والحاجة للاحتيال، أي التعامل بتدبير مسبق ومناورة، ولا يكفي التجاوز بل لا بد من مخاتلة، أي الحركة الحريصة على عدم إحداث ضجة مفزعة. وفي كل ذلك الاختراق والتحدي، فلمَ كل ذلك؟
الخصوصية:
إن موضع هذا الكتاب في الزمن ٢٠١٣م يسمح لنا بأن نلقي نظرة مزدوجة على الحاضر آنذاك والآن ٢٠٢٣م، من تلك الزاوية النصية، فآنذاك كان الحديث عن مجتمع الخصوصية التي يقول عن تعاطي المجتمع معها:
«التعاطي مع تلك الخصوصية على أنها الحارس لتقاليده. لما يعتقد من خلال استمساكه بحواجزها المانعة إمكانية انفصاله عن (الآخر) في زمن عنوانه يتمثل في انكسار عزلة المجتمعات وافتضاض حميمية الفرد.» ص٨
الخصوصية شفرة شائعة الاستخدام خليجيًا، وتبدو هنا في نظر المجتمع حارسًا، لكن لندقق أن هذا الحارس هو في زمن افتضاض حميمية الفرد بتعبير النص، فيما يبدو أن لا فعالية لتلك الحراسة الفكرية والثقافية، لسبب بسيط هو نفسه الفرق بين الجمود والحركة، وهذا الجمود كانت له أسبابه وقيوده وحراسه: شبكة معقدة من القوى التي تهدف إلى الإبقاء على المجتمع كما هو.
هكذا إذن كان المجتمع يحاول التحرك، أو بعض طبقاته، باتجاه تحرره من ذلك الجمود، عبر أفراد بعينهم لديهم قدرة الاختراق: «كل جهد يبذله الفرد والمجموع على هذه الأرض المتأرجحة هو مضاد ثقافي. يحيل إلى رغبة كامنة في التغيير ومخالفة الآخر بالضرورة، أي إعادة تشييد صلاته الاجتماعية بموجب توقه لجمال ورحابة الحياة الطبيعية.»
بمعنى آخر أن توق المجتمع لجمال الوجود وللحياة الطبيعية هو الذي حرك أفراده المبدعين وبالتالي حرّكه، وكانت الحياة الطبيعية هي الحقيقة المنشودة، ولما كانت الحرية هي ماهية الحقيقة وفق هايدجر، فإن الحرية هي المبتغى الجمالي، وبالتالي سعى المجتمع لانفتاحه مع معطيات وجوده الحقيقية، وبكلمات هايدجر:
«انكشفت ماهية الحقيقة كحرية، وهذه الأخيرة (الحرية) هي عملية ترك الموجود المنفتح يوجد، التي تكشف الموجود. كل سلوك منفتح يحدث تاركًا الموجود يوجد ومتخذًا موقفًا من هذا الموجود الخاص أو ذاك. لقد جعلت الحرية كل سلوك متوافقًا، من قبل، مع الموجود في كليته من حيث إنها استسلام أمام انكشاف هذا الموجود في كليته وكما هو.»
مارتن هايدجر، التقنية الحقيقة الوجود، ت. محمد سبيلا، ص٢٨
إن النزوع نحو الحقيقة كما هي نزوع فطري للوجود بالفعل لا بالاسم، وهو وجود فاعل لا مستقبل خامل فحسب، وبتعبير محمد العباس فإن الثقافة بناء وتشييد وليست مجرد معطى.
ثقافة العباية:
عبر ذلك النزوع للحرية بوصفها الحقيقة يقرأ كتاب صنع في السعودية عددًا من الظواهر، كالعباية التي تحولت من: أحد خطوط الدفاع الشكلانية العنيدة عن العقيدة.. إلى آخر صرعات العباية.
إن قراءة العباية بوصفها ظاهرة اجتماعية التقاط بارع، صبّت فيه جهدها خطابات متعددة، الخطاب بوصفه سلطة إذا استعدنا ميشيل فوكو هنا، وتلك الخطابات حاولت التحكم بالعباية والحجاب ككل، منذ قاسم أمين وأول جملة في كتابه المرأة الجديدة ١٩٠٠م الذي قال: لو لم يكن في الحجاب عيب إلا أنه مناف للحرية الإنسانية. إلى يومنا، وفي النهاية تحولت العباية إلى ما يبدو أقرب لفستان سهرة، بتعبير هذا الكتاب. إن العباية قماشة، لكنها تشير للأعمق: تلك الابتكارات الفنية تسير جنبًا إلى جنب مع إيقاع وتفكك الخطابات الاجتماعية والدينية، بمعنى أن ما تحدثه القماشة على السطح إنما هو صدى لما يتهدم في البنى العميقة، ويعكس شكل العلاقة الخفية بين مغازي الإنتاج الثقافي وصيرورة الحياة الاجتماعية. ص٢١
العباية مثال بارع؛ لأنها تمنحنا إمكانية قراءتها بوصفها رمزًا ثقافيًا اجتماعيًا يعبر عن حال الثقافة ككل، فبما أن خطاب الحجاب مبني على دوافع أمنية، فالحجاب ستر للمرأة لحمايتها وفرض احترامها، وهو ليس خيارًا فرديًا للفرد الحرية في اختياره من عدمه، بل فرضًا دينيًا واجتماعيًا، لكن الحجاب هو في الأصل حجب لحقيقة الشيء، تغطيته، وهو ما عانت منه الثقافة كذلك أمام السلطات بدعاوى أمنية شبيهة كحمايتها وفرض احترامها، فتم حجب الثقافة العامة بعباية الخصوصية، وإبراز أجزاء مختارة منها فحسب، أي أن الثقافة كلها هي الأخرى أُلبست، أو لبست، عباية وحجابًا منعًا للإثارة؛ لكن اليوم تدعونا الحاجة لتفكيك الخطاب في أسسه، فلماذا ينظر للثقافة أو للمرأة كمثير ومخيف في المقام الأول، ولم لا ينظر للمرأة وتحترم كوجود وكائن له الحق في الوجود بحريته، والاختيار بملء رغبته لا بإملاءات سلطوية عليه، وكذلك الثقافة، لماذا تمنع هي الأخرى من التعبير الحر عن ذاتها وحقيقتها كما هي وكما تتفاعل مع زمنها ومحيطها الثقافي العام، ولماذا يفرض عليها هي الأخرى ارتداء الحجاب، وخطاب الحجاب هو الخطاب الذي انتشر إلى درجة أن استقر في مفهوم الجهّال أن كل امرأة لا تلبس الحجاب مستباحة من جهة، وصارت العباية أفضل غطاء للدعارة من جهة أخرى، كما أشار قاسم أمين قبل مائة عام، أما الحقيقة نفسها فتحت الحجاب، وبدون الحقيقة فنحن في السر والتيه بالتالي في اللاحقيقة، بتعابير هايدجر.
فإذا عدنا إلى هايدجر في حديثه عن الحقيقة وكانت ماهية الحقيقة هي الحرية فإنه يضيف: «إن الماهية الأصلية للاحقيقة هي السر.» إن السر هنا كما هو واضح هو مقابل للحرية هناك، فإذا كانت الحرية حسب هايدجر في مدار حديثه عن الحقيقة هي ترك الموجود يوجد، فإنه يؤكد لاحقًا على شيء آخر: «إن ترك الموجود يوجد هو في ذاته إذن وفي نفس الوقت اختفاء». إن وجود الإنسان مثلًا وفق هايدجر لا يمكن أن ينظر إليه في جزئياته كالممارسات اليومية وفي كليته كوجود إنساني في وقت واحد، بمعنى أن تركه يوجد، يحجب وجوده الكلي، وتلك الحجب بالطبع ليس من الحقيقة بل من اللاحقيقة، وبتعبير هايدجر فإن اللاحقيقة متضمنة في الحقيقة.
بالتالي إن مسألة الحقيقة ليست انكشافًا حرًا للوجود فحسب، بل هي نفسها احتجاب وسر وتيه في الوقت نفسه، وبالتالي فإن العباية الحالية، والثقافة العامة بالتالي، والتي تبدو ظاهريًا اختيارًا غير واعٍ، أو محاولة لمجاراة أكثر من خطاب كالتقاليد والموروثات والماضي وفي نفس الوقت العصر والزمن والموضة وعدم التخلف، هي في نفسها وذاتها وجود حقيقي، يعبّر عن ذاته وحالته الراهنة، ويستمد حقيقته من حريته التي هي ماهية الحقيقة، وفي نفس الوقت يقاوم في نفسه حجاب اللاحقيقة التي ماهيتها السر، وهو بانخراطه في اليومي يعيش التيه، ومن كل تلك المؤثرات تتكون العباية الحالية كناتج ثقافي رمزي لعصرها، بما هي بروز واحتجاب في وقت واحد، انكشاف واختفاء انفتاح وانغلاق معًا بشكل متزامن، ثقافة تقاوم الانجراف والاضطراب في التيه وراء سلطات الخطابات المختلفة وتشق طريق وجودها وبقائها، لكنها ستظل في التيه بنسبة أكبر ما دامت لم تتوجه لحقيقته وجودها.
البعث في جدة:
من أهم القراءات التي تستوقف قراءتنا هذه هي النظرة المعمقة التي يزجيها كتاب «صنع في السعودية» لصورة الطفلة التي غرقت في سيول جدة في نص عنوانه عروس جدة النائمة:
حياة عروس جدة قد توقفت عند هذا الحد، ولم يعد بإمكانها تحقيق أي حلم من أحلامها، فلتكبر بوعينا وإحساسنا في النص والضمير. ولتكن صورتها وهي تنوس كأنها تموت بسلام محطة لولادة مجتمع قادر على تهجي أبجديات مقاومة الفساد وانتزاع حق مستوجب من حقوقه في الحياة.
ولنا أن نتساءل كيف يعلق النص مثل هذه الأحلام الكبيرة كولادة مجتمع متجدد ومقاوم للاستلاب على صورة طفلة لم تحقق هي نفسها أي حلم من أحلامها؟ يبدو الأمر متضاربًا، لكن تأمّل مشهد الغرق أو تخيّل الصورة، لأني لم أجدها رغم البحث، يذكرني بمشهد غرق اوفيليا في مسرحية هاملت لشيكسبير، ذلك أن غرق أوفيليا في النهر يسبق الأحداث المهمة في المسرحية، فبعد غرق اوفيليا وبفعله يتم قتل الملك الخائن بسيف هاملت وموت الملكة الأم ولايرتس بالسم وأخيرًا هاملت نفسه متأثرًا بجراحه من السيف المسموم، بمعنى آخر يمكن النظر إلى غرق أوفيليا كدافع حاسم للحدث، وذلك يعيدنا إلى تعليق جاستون باشلار على ذلك الغرق الأوفيلي بقوله: الماء عنصر الموت الفتيّ الجميل، الموت المزهر. باشلار، الماء والأحلام.
إذن من تلك الفتوة والأزهار تستمد تلك الطفلة الغارقة جمالها، وهي العروس لتلك اللحظة المزهرة، ذلك أن الطفلة لم تدخل في الصورة من قبل إلا وهي قد ماتت فعلًا، بل وبفعل موتها وغرقها جرى تصويرها، والقراءة إنما هي لصورتها وهي غارقة، فصورتها هي تجسيد لزمن انبعاثها وهو ما يعيد الكاتب قراءته، ونحن حين نقرأ نص صورة الطفلة الغارقة في السيول لسنا كما نحسب أمام موت بل أمام بعث، وتلك الطفلة نفسها في حالة ازدهار وجمال فوق واقعي، وهي مثل أوفيليا، كائن وطنه الماء بتعبير شيكسبير، وبحضور الطين بكل إحالاته للخلق فإننا أمام بعث مكتمل، لذلك فإن النص وهو يسبّح بكلماته، منذ عشرة أعوام، أمام تلك الأيقونة من الجمال يرفع صلواته الصادقة ودعوته بالولادة الجديدة للجمع كله بلا استثناء.
تربية الكوميديا:
تستغرق قراءة المسلسل السعودي الشهير «طاش ما طاش» أكبر مساحة من كتاب صنع في السعودية، المسلسل الذي استمر عرضه منذ العام ١٩٩٣م إلى ٢٠١١م فيما دعاه النص مقرر رمضان السنوي، وكما وصفه: «هذا العمل الفني الذي احتل وجداننا بشخصيات محببة لعقد ونصف من الزمن يصعب تجاوزه بهذه السهولة. وهكذا يمكن أن يكون تجاهله امتدادا أو تفرعا لخطاب ثقافي أشمل، ونسق علوي أكمل، حالة من العبث والتهاون إزاء شكل هام من أشكال الثقافة الشعبية».
في تناول نص كتاب صنع في السعودية لهذا الموضوع نخلص لنتيجة أهم من المعارك الثنائية التي قد تشغل الإعلام، نتيجة أهم من المسلسل نفسه، تخص الواقع عبر تسجيله دراميًا، يلخصها النص بقوله:
«أوصلنا (طاش) إلى حقيقة محزنة وهي أن الواقع مهزلة كبرى. اشتركنا جميعًا في نسجها، ولا نمتلك الحق ولا الشروط ولا الدراية ولا الاستعداد لتغييرها. وليس لنا إلا حق التفرج على أشخاص يمثلون سلبيتنا إزاء الحياة، نسمع أصواتنا عبرهم. فالخراب والعطالة والشر وكل متواليات العطب الإنساني أمور يصعب تغييرها. وهنا مكمن الخطورة للكوميديا التي تتصدى كخطاب ثقافي اجتماعي للتغيير. لكنها تسقط في مصيدة التوصيف عوضًا عن تصعيد الظواهر إلى حد الاستفزاز، وحيث تفشل في تحفيز الكائن على تعضيد وعيه بالفعل لتغيير بؤس الواقع».
ما الذي عكسه المسلسل الشهير الذي استغرق أكثر من عقد ونصف عن المجتمع السعودي؟ وما الذي قدّمه من إلهام؟ وما الصورة التي امتدت بالتالي وتغلغلت في الوجدان كل هذه الأعوام؟ وأين تماهى المشاهد مع أبطال المسلسل؟ وهل كانوا يمثلونه حقًا، أم يدّعون تمثيله؟ وبتعبير النص اشتركنا جميعًا في التفرج على ممثلين يمثلون سلبيتنا إزاء الحياة، وبالتالي صرنا دون أن نشعر سلبيين إزاءها، نضحك ليس من السعادة بل كبوصلة تشير لما نريد ونعجز عن بلوغه، كما يؤكد النص في موضع آخر حين يتناول ظاهرة الضحك في السعودية:
«لا يرتبط الضحك بالسعادة، بقدر ما تندرج مفاعيله ضمن حركة تصحيح اجتماعية خصوصًا عندما تتكاثر الأزمات الروحية والمادية للفرد والمجتمع. إذ يفتح في هذه المنعطفات مهربًا من الأوجاع ويؤدي بالضرورة إلى إحداث حالة واعية لتفجير المكبوت واللامستنفد من طاقة الحياة».
طول الفترة الزمنية التي استغرقها المسلسل حوالي سبع عشرة سنة، طبع تلك السنين بطابعه، قرابة عقدين، حتى استعادته الأخيرة هذا العام ٢٠٢٣م في طاش العودة، تؤكد العمق الذي بلغه في ذهن المجتمع ووجدانه، وبالتالي في أحاسيسه، وقد تمنيت لو توقف النص مع العنوان أكثر، مع أسلوب (إما أو)، (طاش ما طاش)، بما هو تعبير عن حالة انتقالية حاسمة.
إذًا في تلك الأجواء، قبل وأثناء المقرر الرمضاني لطاش ما طاش ترعرعت حركة اجتماعية موازية، هي نفسها ظاهرة يتوسع النص فيها أكثر في قراءته أسباب الضحك في السعودية:
«هذا المجتمع الذي كان ينظر إليه مجتمعا متخثرا في لحظة البداوة، صار يصنف كواحد من المجتمعات الضاحكة الساخرة. بمعنى أنه أكثر التصاقًا بالكوميديا باعتبارها مظهرًا من مظاهر الحاجات الإنسانية».
إذًا أطلق المجتمع، آنذاك، قوة الضحك الكامنة فيه، أوجد لها مسرحًا اجتماعيًا، كان المسلسل نفسه أحد نتاجاتها، وسط مناخ كوميدي، ساخر، وما لم يتمكن منه المسلسل على الشاشة نجح فيه المجتمع على أرض الواقع، ويحلل النص ما حدث بقوله:
«كلما زادت مرارة الواقع الاجتماعي بمآزقه الثقافية والسياسية والاقتصادية والاعتقادية ارتفع منسوب الرغبة في الضحك عند الناس، حيث تعمل السخرية كميكانزم دفاعي عن الذات المقهورة أي كرد فعل وقائي. إذ لا شك في وجود ذلك التناغم البنيوي اللافت بين تراجيديا الحياة المعيشة اليوم في السعودية وكثرة المضحكين الراغبين في تحويل الواقع المعاش إلى مهزلة».
هكذا انتشرت آنذاك في المجتمع السعودي ما يسميه النص حالة كرنفالية من الضحك الصاخب، بالوعي أو باللاوعي، اتخذ المجتمع مساره وتجاوز العقبات والعوائق التي تعيق انكشافه وبلوغه إلى حقيقته، أو التعبير عنها على الأقل، عبر الطريق الكوميدي الساخر الضاحك نفسه، وما أمكن منعه من البث آنذاك على الشاشة لم يعد من الممكن منع تداوله على أرض الواقع، أو في الشبكات الإلكترونية: «لقد تجاوز المجتمع بالفعل جملة من الخطوط الحمراء.. تخطى كل ذلك المستهلك إلى نقد مفاعيل السلطة. بخطاب حواري له سمة الضحكة الأوركسترالية الصاخبة، التي تحمل مواصفات شعبية. فقد هدم الخوف بالفعل، وهذا ما تؤديه الوظيفة النفسية للضحك أي تجرئ العامة على الخاصة، وإعلان الانتماء إلى حركة تصحيحية».
إذن كانت الكوميديا خطابًا اجتماعيًا، فهي حوار، وخطاب مقابل خطاب، بل ويؤكد لنا النص أن تلك الحركة الاجتماعية كانت رسالة لها جوهرها:
«الكوميديا الملتصقة بالواقع لا تحتاج إلى جهد كبير لاستخلاص المأساوي منه بل إن جزءًا من وظيفتها وبراعتها أن تتداخل مع الحياة وتمشهد مظاهرها بمعنى أن تحيلها إلى مسرح يتسع لكل الناس؛ لأنها تلعب على تناقضات ذلك الواقع ومستحيلاته. هذا هو جوهر الرسالة الاجتماعية للضحك الآخذ في الاستحواذ على المشهد الحياتي في السعودية. فقد صار على ما يبدو أفضل أسلوب للمواجهة لخدش التكلسات المؤسساتية وزحزحة التصلبات الاجتماعية المنمطة».
هكذا فإن تلك الحركة الاجتماعية التي اتخذت الكوميديا كأسلوب تعبير وخطاب حوار، بدل المواجهة والغضب، جسدت بذلك اختيارًا ذكيًا واعيًا، وكانت خطوة حذرة، نمت عن وعي اجتماعي سبر بنفسه الطريق المؤدي إلى تحرره، وتواطأَ اجتماعيًا ليحقق الاختراق والتحدي بذلك الكرنفال الضاحك، كرنفال الانبعاث؛ شيء يذكرنا بالحرية التي ذكرها نيتشه في كتاب العلم المرح:
«إنه لمن الضروري أن نروّح عن أنفسنا من حين لآخر لصالح الفن الذي يمكننا من تأمل أنفسنا، من أعلى، وأن نضحك علاوة على ذلك، من أنفسنا أو نبكي علينا، أن نكشف البطل وكذلك البهلول (البهلوان) اللذين يختبئان في شغفنا للمعرفة، أن نستمتع من حين لآخر بجنوننا كي نستمر في الاستمتاع بتعقلنا. ولأننا في العمق عقول خطيرة ولنا جسامة الوزن بدل جسامة الرجال فلا شيء يستطيع أن يحسن إلينا أفضل من قبعة المجنون: إننا في حاجة إليها حاجتنا إلى دواء ضد أنفسنا. نحن في حاجة إلى كل فن مرح، طاف، راقص، ساخر، طفولي وجدي، حتى لا نفقد أي شيء من هاته الحرية التي تعلو على الأشياء التي تنتظر منا أن نكون مثلنا الأعلى.» نيتشه، العلم المرح، ت حسان بورقية محمد الناجي، ص١١٩
هكذا كما يبدو لنا وكما نقرأ هذا الكتاب، ولّد المجتمع السعودي،، عبر الضحك، تغيّره داخل نفسه في تلك المرحلة، وتجذر التغيّر أولًا في وجدانه، وعبّر عنه بوضوح، وهناك بدأ طريق انكشاف ماهية وجوده وحريته وحقيقته، وولد نفسه بنفسه بتعبير جلال الدين الرومي وجابرييل ماركيز، عندها لم يبق غير أن يتبنى القرار السياسي والاقتصادي ذلك الاتجاه الاجتماعي، فهل سيكون ذلك الاستثمار مؤمنًا طول الخط في تلك الرغبة الاجتماعية وذلك البناء الاجتماعي النفسي للسعوديين أنفسهم؟ لأنه إذا آمن في ذلك فإنه بتلك الطريقة وحدها سيلد التغيير الحقيقي للسعودية، فوحده الحرص على أصالة تيارات الدوافع النابعة من الوعي الجمعي للناس هو ما يضمن لهذا المشروع السعودي اليوم قوة جريانه وتفرده وبقاءه.
إن كتاب صنع في السعودية، وأعمال محمد العباس عمومًا، هي من الفكر المهموم بواقعه وثقافته ومحيطه، يستخلص منه موضوعاته واهتماماته وغاياته، يلد نصه من سبر الواقع ومعاينته وتأمله بهدوء وصبر، وبعدّة فعّالة مدهشة، وهدف نبيل يرى طريقًا إلى الغد الإنساني والكائن الجمالي، وهو بنصه يشيد الحقيقة الواقعية التي بمقدورنا رغم مرور الأعوام قياسها، كما يؤكد لنا هايدجر:
«التفكير المتجذر في الواقع، والملتفت إليه، يجب أن يتجه أولًا، ودون أي التواء، نحو تشييد الحقيقة الواقعية التي تقدم لنا اليوم، بمقاومتها لالتباس الظنون والحسابات، مقياسًا ومرتكزًا.»
هايدجر، الحقيقة والتقنية، ص٩
ذلك المقياس والمرتكز الواقعي، هما ما نجح هذا الكتاب في تقديمهما للقارئ، عبر وضعه لدوافع تلك الظواهر في إطار مفاهيمي ونصيّ مقروء وقابل للقياس، يفصح عن نشدان المجتمع الإنساني السعودي من داخله ومن أعماق ثقافته الذاتية للتغيير، ولحرية الوجود على حقيقته وكما هو، وهو ما سيلد التغيير فعلًا في نهاية المطاف، وهو السعي الذي تمدنا طلائعه وما نأمل أن تكون بوادره وبشاراته المتحققة بانتعاشه من الأمل والحلم والإلهام والصلوات، فبين المشاريع الضخمة يبقى المشروع الحقيقي هو الإنسان.
إبراهيم بن سعيد كاتب وشاعر عماني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الکتاب اجتماعی ا ما یبدو ثقافی ا خطاب ا کما هو وهو ما
إقرأ أيضاً:
واتساب يطلق ميزة تحويل الرسائل الصوتية إلى نص
يمن مونيتور/ عالم التقنية
أطلق تطبيق واتساب ميزة جديدة تتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص مكتوبة، مما يسهل متابعة المحادثات في البيئات الصاخبة أو عندما يتعذر الاستماع.
مميزات الخدمة:
تحويل محلي على جهاز المستخدم لضمان الخصوصية
حماية كاملة بالتشفير من طرف لطرف
متاحة حاليًا بأربع لغات: الإنجليزية والبرتغالية والإسبانية والروسية
ستتوفر بلغات إضافية في المستقبل
طريقة تفعيل الميزة:
فتح إعدادات واتساب
اختيار «المحادثات»
تفعيل «نسخ الرسائل الصوتية»
اختيار لغة النسخ المفضلة
تحديد وقت تحميل ملفات اللغة (فورًا أو عبر الواي فاي)
طريقة عرض النص:
الضغط مطولاً على الرسالة الصوتية
اختيار «نسخ»
فتح النص من قائمة نافذة تشغيل الرسالة
ملاحظات مهمة:
قد لا تتوفر الميزة إذا لم تتطابق لغة الإعداد مع لغة الرسالة
لا تعمل جيدًا مع الضوضاء الخلفية العالية
يمكن للمستلم فقط رؤية النص، وليس المرسل