تؤكد مختلف الأحداث التي تشهدها مناطق شتى من العالم، وبالتحديد منطقتنا العربية، أن دور قطاع الإعلام ومنظمات المجتمع المدني في تعاظم مستمر.
مقاربة الحرب طغت على مقاربة التنمية والسلام لدى بعض الأطراف في الغرب
وما انفك المتابع للشأن الدولي والإقليمي يعاين بوضوح أمرين اثنين، أولهما الاصطفاف شبه الآلي ومن دون قيد أو شرط لإعلام دول الغرب الليبرالي "الديمقراطي"، ونشاط أغلب جمعيات مجتمعه المدني، وراء مواقف وسياسات حكوماته في جل المسائل والقضايا، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالعناصر الأساسية في السياسة الخارجية لهذه الدول، وثانيهما الدفع المتواصل لبعض الأطراف المؤثرة على الصعيد الدولي نحو الصدام الحضاري في محاولة لفرضه كأمر واقع وأداة لتحقيق المصالح وحسم النزاعات، وهو توجه تصاعدت حدته ووتيرته مع ظهور توجه دولي آخر حكيم وسلمي يُغلّب الشراكة والتعاون والمقاربة التنموية لرفع التحديات وحسم النزاعات.
وللأسف فإن مقاربة الحرب طغت على مقاربة التنمية والسلام لدى بعض الأطراف في الغرب الليبرالي، خصوصاً لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي انتهجت السياسة ذاتها كلما برز للعيان نزاع إقليمي أو دولي.
وسواء تعلق الأمر بالوضع في أوكرانيا أو في فلسطين، عمد الغرب الليبرالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية إلى تشجيع منطق الحرب وحشد الإمكانات الضرورية لذلك، متعللاً بواجب وحق "الديمقراطيين" في مواجهة "الاستبداد"، متغاضياً بذلك عن محاولات إيجاد الحلول المناسبة لمثل هذه النزاعات، وبما لا يتعارض مع حقوق ومصالح الدول والشعوب التي يضمنها القانون والشرائع الدوليين.
ولا يرى "الديمقراطيون" أي حرج في وقوف الإعلام ومنظمات المجتمع المدني إلى جانب دولهم وحكوماتهم في معاضدة مجهودات الحرب، وتنزيل ذلك في إطار نشر "الفكر الديمقراطي" والتصدّي لما يعتبرونها أنظمة لا ديمقراطية أو أصحاب فكر فاشي معادٍ للديمقراطية الغربية.
ولا يتردد هذا الإعلام الغربي وهذه المنظمات في توخي أساليب التضليل والتشويه وبث الأكاذيب ضد كل من خالفهم الرأي والسياسة وتعارضت معه مصالحهم.
وقد كان ما يجري في فلسطين مناسبة للوقوف على هذه السياسات التي بلغت مرحلة خطيرة جداً على حرية الرأي والتعبير والصحافة، وهي ممارسات كانت الأساس في السياسات الاتصالية والإعلامية لدول الغرب الليبرالي منذ أحقاب، من أجل الضغط على حكوماتنا لنيل مصالح وامتيازات، أو لإحداث أشكال مختلفة من عدم الاستقرار في دولنا ومجتمعاتنا متى استحال عليهم تحقيق المصالح ونيل الامتيازات بمجرد ممارسة الضغط.
وفي اجتماع طارئ لاتحاد الصحافيين العرب عُقد الأحد الماضي في القاهرة وقف الاتحاد على حقيقة هذه الظاهرة في شموليتها بدءاً بما يحدث في فلسطين، ووصولاً إلى السعي المحموم للإعلام الغربي عموماً من أجل تقويض استقرار دولنا ومجتمعاتنا متى تضاربت مع مصالح دولهم، أو سلك بعضها نهج التمسك بقراره السياسي السيادي، وقرر لذلك اتحاد الصحافيين العرب إحداث منصة دائمة لمواجهة موجة هذا التضليل الإعلامي بكشف الحقائق والتذكير بمبادئ وأخلاقيات المهنة الصحافية، وذلك بالتنسيق مع هياكل المهنة في دولنا، وبدعوة الاتحاد الدولي للصحافيين للاضطلاع بدوره في هذا الجهد المشترك من أجل فرض مبادئ وأخلاقيات المهنة الصحافية في دول الغرب الليبرالي، وفي مختلف دول العالم.
ويبقى الأساس في عملية التصدي للتضليل الإعلامي المبني على الحقائق الكاذبة وعمل المنظمات الحقوقية الغربية، الذي يخدم فقط أجندات بلدانها بعيداً عن خطاب المبادئ والقيم الذي يغلفون به هذه الممارسات المشبوهة، يبقى الأساس اضطلاع إعلامنا ومنظمات المجتمع المدني في دولنا بدورها في إطار يحترم مبادئ وأخلاقيات العمل الصحافي والمجتمعي في مناخ عام من الديمقراطية لا يتعارض مع قواعد الحس السليم، ومع خصوصيات مجتمعاتنا ودولنا.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل أمريكا
إقرأ أيضاً:
كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.
•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.
•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..
•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.
غسان علي عثمان كاتب سوداني