استدعاء الكراهيَّة والتاريخ.. خطاب حرب غزة نموذجًا
تاريخ النشر: 25th, October 2023 GMT
قد لا تدركُ الولايات المتحدة وأوروبا أنَّ ترسيخ خطاب الإبادة والقتل للفلسطينيين في غزّة عبر استدعاء فكرة الخلاص بإبادة البعض من أجل بقاء شعب الله المختار، هو ترسيخ لخطاب الكراهية وزيادة كبيرة في فجوة الكراهيَّة بين المسلمين والغرب، وهو ما قد يُولّد درجات متفاوتة من العنف، بل يعزّز التطرف والإرهاب في العالم الإسلامي، وكأنَّ الولايات المتحدة وأوروبا لم تستوعبا ما حدث بعد غزو العراق إثر ادّعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل، وحصار مرير من 1990 إلى 2003 م، من هنا فإنَّ تحليل الخطاب على طرفَي الحرب، يبرز تصاعد الكراهية بصورة غير مسبوقة، ينبع هذا من إسرائيلَ التي يبدو أن لديها خوفًا كامنًا وعدم يقين، ما ولّد لدى الإسرائيليين خوفًا غير مسبوق لدى الجيل الحالي، في الوقت التي بثت فيه خطابات الساسة الإسرائيليين تحريضًا للغرب ضدّ الفلسطينيين تارة بتشبيه حماس بداعش، وبالتالي استدعاء الصورة الذهنية لداعش في العراق وسوريا والتي ترتبط بقطع الرؤوس أو سبي النساء .
إن كل ما سبق يتمّ عبر وسائل الإعلام الرسمية على جانبي الحرب ومناصري كل طرف، لكن هذه الحرب الدعائية ساحاتها الحقيقية هي وسائط التواصل الاجتماعي، فمنصات الإعلام الرقْمي توفر مساحات بديلة للتعبير عن الرأي، ونقل وتغطية الأحداث من زوايا لا تغطيها وسائل الإعلام التقليدية، هنا يتم تضخيم المحتوى الحاثّ على الكراهية بواسطة الخوارزميات على منصات التواصل الاجتماعي، ويحظى هذا بقدر كبير من المشاركة والاهتمام، الخطورة تكمن في مشاركة محتوى لم يجرِ التحقّق من صدقه أم هو مضلل، ويضخّم من يبثّ ذلك الادعاءات التي لا أساس لها، وفي حرب إسرائيل ضد غزة وصل التضليل إلى مستوى غير مسبوق لتوجيه قرارات الدول الغربية، ليزيد محتوى وسائط التواصل الاجتماعي من وتيرة الحرب على كل المستويات، لكن الخدعة أيضًا تأتي من مصادر بحسابات مجهولة قُدرت على منصات "إكس" و"تيك توك" بـ 20 % من حجم الحسابات، وما يعزز دور هذه الحسابات أن اشتراكًا بقيمة 8 دولارات شهريًا على منصة "إكس" مع العلامة الزرقاء يؤدي إلى نشر معلومات وتقارير وصور مزيفة بمساعدة الخوارزميات وإلى زيادة الكراهية بصور غير مسبوقة، هنا منصات التواصل الاجتماعي تضخّم قوةَ طرف على حساب طرف آخر، فقد ثبت أنَّ الصور التي تظهر أطفالًا إسرائيليين في أقفاص خطفتهم حماس غير صحيحة، كذلك تبيّن أنَّ حسابًا يتظاهر بأنه "صحيفة جيروزاليم بوست" الإسرائيلية أشاع أنَّ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي نُقل إلى المستشفى، كما أظهرت مقاطع مزيفة جنرالات إسرائيليين أَسَرتهم حماس، وتبين أنَّها من أذربيجان، ومقطع آخر مزيف أظهر قطع رأس طفل بزعم أن حماس ارتكبته، وهو ما حدث في الواقع في سوريا عام 2016 م، كما لم يتم التأكد من قبل الساسة الغربيين من قصة قطع رأس 40 طفلًا، من قبل أي حساب رسمي، حتى تبنّاها الرئيس الأميركي جو بادين في خطابه لإدانة حماس، ليتم التراجع الأميركي لاحقًا عن هذا الاتهام، كما أنَّ الفرق الإسرائيلية مهمتها تشويه صورة الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية لدى الغرب، حتى بثّت ما يزيد على مائة ألف تدوينة منذ 7 أكتوبر تقوم على بعث الشكوك والكراهية، وكان نتاج كل ما سبق ترسيخ خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين في الغرب، وبالتبعية ضد العرب والمسلمين .
إزالة محتوى وتقييد حساباتكانت إسرائيل التي تتابع من كثب كل ما يُنشر على وسائط التواصل الاجتماعي، قد مارست ضغوطًا على منصة "تيك توك" لإزالة محتوى معادٍ لها بصورة غير مسبوقة، ففي عام 2022 م، تلقت "تيك توك" 2713 طلبًا لإزالة محتوى أو حسابات أو تقييدها، وتأتي الحكومة الإسرائيلية ثانية بعد روسيا في طلبات إزالة المحتوى على "تيك توك" عالميًا، قدمت إسرائيل 252 طلبًا رسميًا؛ أي 9.2 %، فيما قدّمت الولايات المتحدة 13 فقط، وفرنسا 27، وبريطانيا 71، وألمانيا 167 طلبًا، لكنّ المهم في حرب غزة الحالية هو أن إسرائيل تركّز بصورة غير مسبوقة في وسائط التواصل الاجتماعي على تحسين رؤية الجمهور الإسرائيلي أداءَ إسرائيل في الحرب الحالية، هذا ما قد يكشف عدة أبعاد متعلّقة بالمصداقية الإسرائيلية لعدة أسباب قد تعود إلى أنّ خسائر إسرائيل أكبر بكثير مما هو معلن عنه، وأنّ الصدمة كانت أعمق مما نتخيله، ما هزَّ ثقة الإسرائيليين في أنفسهم وفي الدولة الإسرائيلية، هذا ما يقدم؛ تفسيرًا للشراسة الإسرائيلية في القتل والتدمير في غزّة، وهذا ما قاد الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى القلق من وضع إسرائيل في المنطقة العربية، خاصةً أنّ إسرائيل نفسها باتت في وضع قلق على استمرارية الدعم الغربي، في ظلّ تصاعد دور فاعلين جدد في الشرق الأوسط قد يؤدون أدوارها.
إنَّ إرسال حاملات الطائرات والبوارج والقوَّات والأسلحة من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، استدعى للذهنية العربية على الفور lما حدث بعد معركة حطين، فتكتّلت أوروبا ضده حتى استولت على مدينة عكا بعد أن حررها صلاح الدين الأيوبي، من هنا فإنّ الولايات المتّحدة وأوروبا لا تدركان أنهما بدعمهما المطلق المعلن إسرائيل لإبادة الفلسطينيين في غزة تثيران مشاعر متصاعدة وتبعثان كراهية دفنت في كتب التاريخ من منطلقات هي ترسخ الحرب الدينية، وبالتالي العنف القائم على الدين، عزَّز هذا وسائل الإعلام الغربية وخطابات الساسة الغربيين في إسرائيل، ما شكّل تجسيدًا غير مسبوق لخطاب الكراهية، سيدركه الغرب بعد انتهاء هذه الحرب، وهذا ما سيدفع دول الغرب يائسةً مستقبلًا لمحاولات تحسين صورتها في العالم الإسلامي، وهي مهمة ثقيلة لم يدركها الغرب إلى الآن، خاصةً مع ترديد المسؤولين الإسرائيليين أنّ الفلسطينيين "حيوانات يجب إبادتهم " دون استنكار غربي، ودون أن يدرك الغرب أن شعوب العالَمين: العربي والإسلامي تلتقط هذه الكلمات والصمت الغربي عنها بصورة ترسخ الكراهية، فقد صُوِّر بنيامين نتنياهو وهو ملطخ بدم الفلسطينيين ويده يخرج منها شلال دم متدفّق من دم الفلسطينيين في وسائط التواصل الاجتماعي العربية، وهذه إشارة لم يفهمها الغرب ولم يستطع أن يحللها، فهي تعبير عن الرغبة في الثأر، لتبدو ساحات الإعلام الرقمي كأنها ساحات للحرب والحرب المضادة، وباتت أيضًا هذه الساحات تنتقد الغرب في قضايا حقوق الإنسان، وتقارن تفاعله مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وتبرز هذه التناقضات بقوَّة أنَّ الدم الفلسطيني لا قيمة له، وبالتالي ينسحب هذا على الدم العربي والمسلم، في حين أنّ الأوكراني يستحق الدفاع عنه.
تكريس الكراهيةإنَّ الغرب الذي يقود العديد من الحملات لنزع الكراهيّة في الوقت الذي يكرّس فيه الكراهية لا يدري أن نصوصه التي وضعها في العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة بالمادة ( 20 ) تنصّ على الحظر القانوني لأية دعوة إلى الحرب أو إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة، وكذلك الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز في المادة ( 4 ) والتي تحرم التعبير بواسطة أفكار تنمّ عن التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، وكلُّ تحريض عنصري وكل عمل من أعمال العنف أو تحريض على هذه الأعمال يرتكب ضد أي عِرق معين أو أية جماعة من لون أو جذر إثني أخر، وكذلك كل مساعدة للأعمال العنصرية التمييزية، بما في ذلك تمويلها، جريمةٌ يعاقب عليها القانون .
وفي الاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان في المادة (13) جاء ما يلي: (وإن أية دعاية للحرب وأية دعوة إلى الكراهية القومية أو الدينية واللتين تشكلان تحريضًا على العنف المخالف للقانون، أو أي عمل غير قانوني آخر وما يشابهه ضد أي شخص أو مجموعة أشخاص، مهما كان السبب، سواء أكان سببه العرق أم اللون أو الدين أو اللغة أو الأصل القومي، تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون).
كما أن الشبكة الدولية لمناهضة الكراهية الإلكترونية تعرف الكراهية بأنّها: (عبارة عن بيانات تمييزية أو تشهيرية عامة متعمدة أو غير مقصودة أو التحريض المتعمد على الكراهية أو العنف أو الفصل على أساس الجنس الحقيقي أو المتصور للشخص أو المعتقدات السياسية، والحالة الاجتماعية والممتلكات والولادة والعمر.. إلخ).
فهل يدرك الغرب ما يفعله عبر تأكيده خطاب الكراهية المتواصل وتبعات الدعم اللامحدود لإسرائيل على الكراهية التي يزرعها لدى شعوبه وشعوب العالم الإسلامي، وتبعات هذا على المدى البعيد في حرب أساسها عدم الإدراك لكل كلمة وتصرف وتبعاتهما؟.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الإسلاميون والجيش واستراتيجية المليشيات: أدوات السيطرة التي تهدد مستقبل السودان
في الأسابيع الأخيرة، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي أخبار عن تأسيس مليشيات جديدة للقتال بجانب الجيش مثل الأورطة الشرقية، حركة تحرير الجزيرة، تيار شباب البجا، وغيرها. قبل الحرب أيضاً وبذرائع مختلفة كالمطالبة بالحقوق والتمثيل في السلطة، وعدم حصول مناطق على إمتيازات أو تجاهلها في إتفاق جوبا وغيرها، تم تأسيس مليشيات مثل قوات درع البطانة، درع الوطن، وقوات كيان الوطن، تحت بصر وسمع الأجهزة العسكرية والأمنية، وفي الغالب هذه الأجهزة هي من أسست هذه المليشيات، مما يدل على أن استراتيجية الجيش والإسلاميين الرئيسية هي تأسيس واستخدام المليشيات، سواء التي أسسها الجيش أو التي تحالفت معه، بما في ذلك تلك المرتبطة بالإسلاميين كالبراء بن مالك. هذه المليشيات استخدمت قبل الحرب لإشاعة الفوضى ولتهديد قوى الثورة المدنية بالحرب، ولإشاعة حالة من الضعف الأمني. بعد إندلاع الحرب تستخدم هذه التشكيلات للقتال ضد مليشيا الدعم السريع. وللمفارقة العجيبة، فإن قوات درع الوطن بقيادة كيكل كانت قد إنضمت للدعم السريع وتسببت في إجتياح مدني وسنجة وغيرها وسقوطها في قبضة مليشيا الدعم السريع، ثم قبل أسابيع عاد كيكل بعدد قليل من هذه القوات وإنضم للجيش كمليشيا شبه مستقلة تحت اسم درع البطانة وليست تحت سيطرة الجيش بالكامل وإن تم الإدعاء بغير ذلك.
في بعض الأحيان، تُستخدم هذه المليشيات كأداة ضغط سياسي، وربما لاحقاً عسكري، كما يحدث حالياً في مطالبة ما يسمى تيار شباب البجا بإخراج مليشيات العدل والمساواة وتحرير السودان من ولايات الشرق. تُستخدم هذه المليشيات الآن لإنهاء الحرب والإنتصار على مليشيا الدعم السريع، على حساب استقرار الدولة ومستقبلها.
يناقش هذا المقال لماذا يرفض الجيش والإسلاميون دمج أو ضم، ولو مؤقتاً، كل التشكيلات والأفراد الراغبين في القتال ضد مليشيا الدعم السريع في الجيش، وماهي أسباب استخدامهم لاستراتيجية المليشيات وتأثيرها على مستقبل السودان.
أسباب استخدام المليشيات
إحدى الأسباب الرئيسية وراء الاعتماد على هذه المليشيات، وربما السبب الرئيسي، هو الخشية من صعود تيار داخل الجيش بعد إنضمام فئات مختلفة من الشعب للقتال معه، قد ينحاز إلى مطالب الشعب السوداني التي عبرت عنها ثورة ديسمبر. هذه الخشية تُفسر رفض الجيش والإسلاميين لانضمام الكثير من العسكريين المفصولين أو المعاشيين إلى صفوف الجيش في الحرب الحالية، حيث يرون أن هؤلاء قد يشكلون تياراً مناهضاً لهم وقد يصبح لهم صوت ووزن داخل الجيش، وربما أصبحوا أداة للتغيير السياسي خارج سيطرتهم. كذلك قتال هذه التشكيلات هذه بجانب الجيش بشكل شبه مستقل بعيداً عن سيطرة الجيش الكاملة عليها، يطرح تساؤلاً بشأن دور هذه المليشيات بعد الحرب وقابلية استخدامها للتمكن من السلطة، أو للحصول على إمتيازات سياسية، أو لقمع الشعب والقوى السياسية.
وفي الوضع الإقتصادي الحالي، فإن تشكيل المليشيات يُعتبر أقل تعقيداً وأقل تكلفة من تدريب الجنود وفق المعايير النظامية. هذه التشكيلات المسلحة تعتمد غالباً على دعم مالي ولوجستي من قنوات غير رسمية كالدعم الشعبي، ولكن مثلاً يتحدث العديد من المواطنين عن كثرة الإرتكازات الأمنية والمطالبة بالرسوم من المركبات العابرة وغيرها من الظواهر. هذا الشكل من التمويل يقلل من الأعباء المباشرة والإلتزامات المالية على القيادة العسكرية والسياسية. كما أن الإرث التاريخي للمليشيات، الذي يعود إلى نزاعات السودان الطويلة، جعلها أداة مفضلة لتحقيق السيطرة وتقسيم القوى داخل الدولة.
التحديات الناجمة عن المليشيات
هذا النهج يمثل خطراً كبيراً على مستقبل السودان. وجود المليشيات يضعف المؤسسات الوطنية ويؤدي إلى ازدواجية السلطة، ويعيق الإلتزام بالقوانين وتطبيقها. كما أن الغالب في تكوين هذه المليشيات أنه على أسس قبلية وإثنية أو مناطقية مما يزيد من التوترات الاجتماعية ويخلق صراعات محلية طويلة الأمد، تهدد الوحدة الوطنية. تزايد هذه التوترات يؤدي إلى إضعاف التماسك المجتمعي ويعيق إنتصار الجيش نفسه، ويزيد من تعقيد أي جهود للوصول إلى تسوية سياسية.
الاعتماد على المليشيات يؤدي إلى إضعاف الجيش النظامي، حيث تصبح هذه التشكيلات بديلاً غير منضبط للقوة الرسمية، مما يقوض فعالية الجيش ويهدد تماسكه. بالإضافة إلى ذلك، التمويل المالي لهذه المليشيات لاحقاً سيعتمد غالباً على السيطرة على الموارد وربما النهب، مما يؤدي إلى استنزاف الاقتصاد وتعطيل التنمية كما حدث في حالة مليشيا الدعم السريع. كما أن انعدام الأمن الناتج عن نشاطها يفتح الباب لممارسات كالتهريب والأنشطة غير المشروعة، ويعوق الاقتصاد ويزيد من الأزمات المعيشية.
الدور الخارجي والتدخلات الإقليمية
تدخل القوى الخارجية لدعم هذه المليشيات يضيف حلقة أخرى من التعقيد، ويحول السودان إلى ساحة صراعات إقليمية ودولية. وفي تناقض غريب، ورد أن الأورطة الشرقية ومليشيات أخرى قد تم تدريبها في إريتريا، حيث بدأت مليشيا الدعم السريع كقوة محلية ثم طورت علاقات خارجية لتصبح مستقلة عن الدولة، ما يعكس إمكانية تحول هذه المليشيات إلى كيانات ذات علاقات خارجية معقدة وربما تصبح تحت سيطرة خارجية. هذه العلاقات تُعقد أي محاولة لفرض السيادة الوطنية وقد تؤدي إلى فقدان القدرة على التحكم في الأراضي والموارد الوطنية.
على المدى الطويل، تُعرف المليشيات باستخدامها للعنف المفرط وغير المنضبط، مما يؤدي إلى تصاعد الانتهاكات وزيادة الفوضى. هذا الوضع يجعل الإنتصار الشامل أو تحقيق السلام أمراً صعباً، حيث تصبح هذه التشكيلات المسلحة عقبة رئيسية أمام أي حل. حتى في حال الإنتصار الكامل للجيش، فقد تتغير أهداف المليشيات مع مرور الزمن وقد تستخدمها أطراف خارحية كما حدث مع الدعم السريع، مما يهدد استقرار الوضع حتى بعد انتهاء الصراع العسكري.
التحديات في المستقبل: تفكيك المليشيات ودمجها في الجيش
حتى إذا تحقق إنتصار كامل للجيش على مليشيا الدعم السريع وهو أمر مستبعد في الظرف الحالي، أو تم التوصل إلى اتفاق سلام، فإن تفكيك المليشيات أو دمجها في الجيش يمثل تحدياً كبيراً، كما أظهرت تجارب دول أخرى في المنطقة مثل الصومال وليبيا. منذ بداية التسعينات، واجهت الصومال صراعاً طويل الأمد بسبب وجود المليشيات المسلحة التي دعمتها قوى خارجية مختلفة، مما أدى إلى انهيار الدولة وتفككها إلى مناطق سيطرة متعددة. وبعد أكثر من ٣٥ عام على إندلاع الحرب في الصومال لا تزال المليشيات تستخدَم في صراعات محلية ودولية، مما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار المستمر والتدخلات العسكرية الإقليمية والدولية. في ليبيا، تسببت المليشيات المدعومة خارجياً في تمزيق الدولة إلى كيانات متناحرة على السلطة. فإن كان قرار الجيش والإسلاميين أنهم لن يذهبوا لإتفاق مطلقاً، فالأفضل لمستقبل السودان أن يكون كل المقاتلين تحت القوات المسلحة فعلياً والإبتعاد عن استراتيجية المليشيات هذه.
في النهاية، الاعتماد على استراتيجية المليشيات يعكس ضعف الفكر وعدم قدرة قادة النظام السياسي والعسكري الحالي في السودان على التعلم من التجارب الذاتية والخارجية، وعدم الاكتراث لأرواح السودانيين. إن تحقيق السيطرة الآنية باستخدام المليشيات، وإن حدثت وهي مستبعدة في الظرف الحالي، على حساب الاستقرار الوطني لن يحقق الأمن المستدام، بل يقود السودان نحو التفتت والانقسام، مع تداعيات كارثية على الشعب السوداني لعقود قادمة. الحلول الحقيقية تكمن في بناء مؤسسات قوية، والبدء بإصلاح الجيش إلى مؤسسة مهنية ذات عقيدة وطنية تمثل كل السودانيين الآن وأثناء هذه الحرب.
mkaawadalla@yahoo.com
محمد خالد